-
توظيف القصيدة النثرية الأفقية كقصة قصيرة
في القصيدة التجديدية النثرية الأفقية تكمن صفة مهمة، قد تكون مضمرة بصورة قصدية، أو واضحة جلية للمتابع والمتلقي، وهي الإمكانيّة السهلة لإحالة النصّ الشعري إلى قصة قصيرة مكثّفة فيها كل مقومات كتابة القصة القصيرة الحديثة، مع الإضافات الرمزية الجمالية للقصيدة، فهناك عامل مشترك في البناء والمعنى بين (القصة الشاعرة) كنمط أدبي جديد، و(القصيدة الأفقية التجديدية) الجديدة على الساحة الأدبية كلون نثري يحمل صفة الشعر التجديدي.
اللونان أو النمطان ربما ولدا معاً (في المرحلة التجديدية) مع عدم نسيان قدم (قصيدة النثر الأفقية) زمانياً، ويختلفان مكانياً، حيث تمتدّ جذور القصيدة التجديدية النثرية الأفقية في العراق لتنتشر لاحقاً في الوطن العربي، والنمط الثاني بين مصر والأردن، هذه الإشارة كإيضاح توثيقي موضوعي لا بدّ منه. فيما لو موضوع القصة الشاعرة سنتعرّف على أهم جوانب هذا النمط التجديدي المستحدث وما قيل عنه، لعلها تأتي في وقت آخر.
إذن فالقصيدة النثرية التجديدية تُستبدل بأقل جهد إلى قصة قصيرة بإضافات بسيطة، وتعديلات سهلة، خالية من التعقيد، لاسيما مع القصائد المكتظّة بالصيغ الفعلية وإحالتها الى أسماء وصِفات، في حوارية غير مكشوفة بصيغة السرد الحكائي الماثل للشرح والتفصيل، ما يعني أنّ الإضافات إجرائيّة ممكنة الاستعمال بدخولها على النصّ، على العكس من القصيدة النثرية الواقفة، ولا نعني بذلك أنّ سرد القصيدة التجديدية هو (قصة) بل هو الفكرة المكثّفة، والعمق البنائي، والرمز المتداخل بين الجمل النثرية وإن كانت بشكل أعمق غالباً، وسنأتي بمثال على ذلك في محاولة تجريبية شخصيةّ (للمؤلف) كقصيدة نثرية أفقية تجديدية منشورة، وهي ما يعبر عنها النصّ السردي بالكتلة الواحدة أحلناها إلى قصة قصيرة نترك معرفة مختلف جوانبها للمتخصص والقارئ، ولهما حرية إنشاء الرأي والمقارنة مهما كان.
القصة القصيرة بعد إحالتها من قصيدة نثرية تجديدية بعنوان “في ليلة من عيد جديد” إلى اسم آخر هو “لوحة صامتة ترسمها الضوضاء”.
القصة القصيرة: لوحة صامتة ترسمها الضوضاء..1
“أوراقٌ ما زالت مبللة كألوان الطواويس تميّزت حماماتها، مرفوعةَ الرؤوس يمشينَ منتفخات الصدور، طرزن كلَّ غرورِ المساء قلائدَ، وتعطّرنَ بأنفةٍ زائفة تَتْبَعهُن غربانٌ كسيحة من شارعٍ لآخر.. اللصوص لم يخافوا تلكَ الليلة؛ فارقوا كؤوس نذالتهم وامتطَوا جيادَ الشهوات. بشغفٍ كان جالساً يرسم بلا عين ترصده إلى من ينتظرون النفّاثاتِ في مصائد شعوذاتهنّ.. حتى الأشجار أماطت لثامَ عريها تنتظرُ الاستباحة الملعونة مادامتِ العتمةُ استرخت بعد نهارٍ شاقٍ من انتظارِ مواويلِ الكذبِ المنسلخِ من مستنقعِ الشّرورِ والدناءة حتى قطّعَ أنفاسَ الصّباح المتّسخ، لكنه كان هناك.. صبرَ وصمدَ طويلاً؛ ربما نفدت سجائره، وقنينة الماء بقربه آذنت هي الأخرى بالرحيل، وما زال يراقب تلك الطيور العارية، ويلونها بألوان صنعها في مختبراته الخاصّة بخليطٍ من مواد تجميلٍ مغشوشة.
قُربَ (خضرِ الياس)، تحت واحدٍ من جسور بغداد المثقلة بأنينِ الحواجز، وكدمات اللون الممسوخ في ساعات الغفلة، هناك مزارٌ لمن أتعبه العشق اللاعذريّ، أحاطت به أسلاكٌ الخيانة الشائكة دائماً والتي مزّقتها زفراتُ بعض الغانياتِ اللواتي جلبنَ عصافيرَهنَّ البريئة، وبعض حقائبٍ صَبَغتها ألوانُ العفّة المُجهضةِ بانتظار سمسارٍ برائحة العاهرات وملابس بلا كرامة، وفي جوارٍ كئيب يجلس بائع الحلوى البالية بلحيته الطويلة التي بيّضتها أثقال السنين الغامضة لعل إحداهنَّ تتوحم مع دناءة نفسها وتشتري قطعة.
كشفت الأضواءُ الليليةُ عورةَ من ينادي شوارعَ صوته المتخاذل، وبؤس جيوبه المترعة، في حين كانت سياراتُ الأعراسِ ترقصُ لخيبتها، وبياض الملابس الشفافة تركت صلاتها عند أول خطوة قرب بيوت المَسكَنة بانتظار حلمٍ متفسّخ قبل أن ترفعَ ألوانُ تبرجٍ موهومٍ مترفٍ بحفنة من ورقٍ بالٍ، وقطعٍ بلونٍ أصفر يصيب العيون بعمىً ليس بوقتيّ.. حاول أن يخفي لوحة رسمه، لكنه قرر الانتهاء، لأنّ المشهدَ مكررٌ”.
أما القصيدة النثرية التجديدية فكانت كالتالي:
” في ليلة من عيد جديد..”
(أوراقٌ ما زالت مبللة كألوان الطواويس تميّزت حماماتها، مرفوعةَ الرؤوس يمشينَ، منتفخاتِ الصدورِ، طرزنَ كلَّ غرورِ المساء قلائدَ، وتعطّرنَ بأنفةٍ زائفة تَتْبعن غربانٌ كسيحة من شارعٍ لآخر، واللصوص لم يخافوا تلكَ الليلة، فارقوا كؤوس نذالتهم وامتطَوا جيادَ الشهوات، ينتظرون النفّاثاتِ في مصائد شعوذاتهنّ، حتى الأشجار أماطت لثامَ عريها تنتظرُ الاستباحة الملعونة ما دامتِ العتمةُ استرخت بعد نهارٍ شاقٍ من انتظارِ مواويل الكذب المنسلخ من مستنقع الشرور والدناءة حتى قطّع أنفاس الصباح المتّسخ.
قرب خضر الياس، تحت واحدٍ من جسور بغداد المثقلة بأنين الحواجز، وكدمات اللون الممسوخ في ساعات الغفلة، هناك مزارٌ لمن أتعبه العشق اللاعذريّ أحاطت به أسلاكٌ الخيانة الشائكة دائماً، مزّقتها زفراتُ بعض الغانيات اللواتي جلبنَ عصافيرهن البريئة وبعض حقائب صَبَغتها ألوانُ العفّة المُجهضةِ بانتظار سمسارٍ برائحة العاهرات وملابس بلا كرامة.
كشفت الأضواء الليلية عورة من ينادي شوارع صوته المتخاذل، وبؤس جيوبه المترعة، كل سيارات الأعراس رقصت لخيبتها، وبياض الملابس الشفافة تركت صلاتها عند أول خطوة قرب بيوت المَسكَنة بانتظار حلمٍ متفسّخ) .
إضافات بسيطة على هذه القصيدة أحالتها إلى قصة قصيرة من خلال إضافة شخصية رسام يرسم الواقع أمامه، جالس في مكان بعيد يراقب ما تفعلنه تلك الغانيات مع بناتهن، وكيف يعلمهنَّ أشياء لا يصح أن يمارسنها رغم ما جاء به النص من رمزية ليست معقدة، ورجل كبير السن يبيع الحلوى لعلّ إحداهنّ تشتري، وأخيراً يكمل الرسام لوحته إلى هذا الحدّ ويغادر المكان لأنّ ما يراه مشهداً يوميّاً مبتذلاً لا يستحق٢.
1ـ سعد الساعدي/ قصة قصيرة من المجموعة القصصية غيوم لا تعرف الغزل/ دار المتن/ بغداد/ 2019.
2ـ اختار الكاتب واحدة من قصائده وقصصه كمثال تجريبي تلافياً للإحراج فيما لو اُختيرت قصيدة لشاعر آخر وتحولت لقصة قصيرة.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!