الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
حلم المدرسة الذي لن يعود
حلم المدرسة الذي لن يعود

نور مارتيني - صحفية سورية


وجوه متعبة فقدت نضارتها، أوجعتها الخسارات المتلاحقة، والحزن الذي بات روتيناً يومياً في حياة السوريين..خطواتهن تائهة، ترمق البعيد المجهول بأعين كسيرة، أو أنّها حالمة تلتمس طاقة للفرح، وسط كلّ هذا التيه.


تلك هي حال السوريات اللواتي فقدن رونقهنّ وشبابهن، في رحلة البحث عن غدٍ بلا دموع، محاولاتٍ لرأب الصّدع الذي خلّفه الزمن على جدران قلوبهن.


حلم المدرسة الذي لن يعود

عبير واحدة من الفتيات اللواتي وجدن أنفسهنّ في مواجهة مع واقع فج، بلا ملامح.


حين التقيتها، كانت في السادسة عشرة من عمرها..وجهها ينضح بالفرح، وعيناها يلتمع فيهما بريق عجيب، هو مزيج بين السحر الآسر والذكاء الشديد..عينان تشيان بحبّ كبير للفرح، وتوقٍ كبير للحياة..عينان متلألئتان تعكسان طموح المراهقة النجيبة، وإصرارها المحموم على التميز.


حلم المدرسة الذي لن يعود

كنت أتابع أخبار نجاحها المدرسيّ بشغف، وأنتظر اليوم الذي ستنهي فيه دراستها الثانوية، وتلتحق في الجامعات التركية، بعد أن حرمها فقد الأب ودمار المنزل من البقاء في سوريا، فاضطرت للنزوح إلى جنوب تركيا، حيث التقيتها. غير أن والدتها صدمتني بخبر خطبتها على شاب من أبناء الجيران.


لم تكن عبير عبارة عن حالة استثنائية لشابّةٍ تخلّت عن طموحها، لصالح سقف وحيطان..بل هي واحدة من مئات الآلاف من السوريات اللواتي أجهزت الظروف الحياتية القاسية على أحلامهن..كثيرات هنّ من فقدن السّند الحقيقي، و‘أكثر منهن أولئك اللواتي لم تعد لديهنّ حالة الشغف بالحياة، التي تدفعهن لليحث عن هوية خاصة.


زوجة قاصر ومغتربة

شهر واحد فقط استمرّت خطوبة عبير على الشاب الذي لم تكن تعرف عن أخلاقه وطباعه شيئاً، فضلاً عن أنه ينتمي لمحافظة بعيدةٍ جغرافية عن حمص، التي تنتمي إليها عبير وعائلتها، وتباين العادات والتقالبد.


سافرت عبير بعد شهرٍ إلى القاهرة، حيث التحقت بعائلة زوجها التي باشرت مشروعاً تجارياً هناك..ابنة السادسة عشرة باتت اليوم زوجة ، تتحمّل مسؤولية منزل العائلة الكبير، الذي يقطنه زوجها مع أخوته الأربعة الذكور وشقيقته التي لم تتجاوز العاشرة، ووالدته التي باتت تعتمد على كنّتها في كافة الأعمال المنزلية..تقول والدتها، بغصّة في الحلق ومحاولات يائسة للتماسك: "صوتها لم يعد ذاته، أحسّ بغصّة مكبوتة في كل حرف. لا أستطيع الذهاب لزيارتها، ولا هي قادرة على زيارتي في تركيا..لقد دفعت بابنتي للمجهول..سيبقى ذنبها في رقبتي إلى أن أموت".


في مصر..باتت عبير وحيدةً بلا سند، وكانت مضطرّة للتأقلم على نمط حياةٍ جديدة، لا تعرف متى يتبدّل، ولكن أقسى ما واجهته هو البعد عن والدتها، والإحساس بالذنب لأنّها تركت دراستها، وصمّمت على الزواج قبل حصولها على الثانوية العامة..

واقع مربك وغياب التوثيق.


قد تكون حالة عبير، بكلّ ما تحمل من مآسٍ واحدة من أبسط الحالات، فهي التي اختارت شريك حياتها، ولو أنّ سنّها أقلّ من أن يسمح لها بتقرير مصيرها، ولكن الكثير من القاصرات السوريات قد زوّجن ضدّ رغبتهن، تجت وطأة ضغط العائلة أو المجتمع، ناهيك عن ضغوطات الأسرة.


غير أنّ المؤسف حقاً هو عدم إمكانية إيجاد معايير ضابطة لهذه الحالات، نتيجة غياب المرجعية القانونية والإدارية، وتبعثر الحالات في دول الشتات، ما يعرقل مسألة توثيقها بشكل واقعي ودقيق، قضلاً عن غياب الجهات الرّقابية والقانونية الكفيلة بإحصاء هذه الحالات من جهة، وعدم مقدرة المؤسسات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان على الوصول إلى كلّ المخيّمات ورصد جميع الحالات، فالمناطق الخاضعة للتنظيمات المصنفة كتنظيمات إرهابية لا تشملها استطلاعات الرأي، بسبب استحالة دخول الوفود الأممية أو المؤسسات الدولية، ناهيك عن استحالة التغطية الصحفية الكفيلة بتقديم معلومات وافية عن هذه الحالات.


مشكلة أخرى، هي أنّ الإحصائيات التي تقوم بها المؤسسات التابعة للأمم المتحدة كاليونسيف على سبيل المثال، تتناول نسبة الأمية بين كلا الجنسين على حدّ سواء، دونما تفصيل الأسباب، ودون تسليط الضوء على ظاهرة الأمية بين الفتيات القاصرات وارتباطها بالزواج القسري، أو حتى الطوعي، حيث أشار تقرير اليونيسيف لعام 2015 وقبل أربعة أعوام من تاريخه أنّه "ه يوجد اليوم أكثر من 7 ملايين طفل سوري متأثرين بالحرب. ومنهم 2.8 مليون طفل خارج المدرسة بين الداخل والخارج" وأوضح التقرير أنّ هذا الرقم يعني "خسارة لارباح مستقبلية تقدر بـ 5.4 من الناتج المحلي بسبب حرمان الاطفال من التعليم" ولفت التقرير إلى أنّه "في الوقت الذي كانت نسبة التعليم في سوريا تبلغ 95% للأعمار بين 15-24 سنة. اليوم وبعد أربع سنوات من الحرب أصبحت سوريا تحتل المرتبة الأولى في أقل نسبة تسجيل في المدارس عالمياً".


الإحصائية السابقة لليونيسيف، لا تفصل بين الذكور والإناث، وبالتالي بصعب الحصول على معلومات دقيقة حول نسبة الأمية بين القتيات، وتوضح بشكل صارخ غياب المعلومات الدقيقة المتعلّقة بهذا الملف الحرج.


عبير وبنات جيلها

من يتابع اليوم واقع المخيمات والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام يرى أنّ واقع التعليم المتردّي فيها أسهم في إحجام الكثير من الأهالي عن تعليم أبنائهم، فالشهادات في الغالب غير معترفٍ بها، أما المتواجدون في دول الجوار فهم في الغالب من ذوي الدخل المحدود، فيما يتطلّب الحصول على تعليم مقبول المستوى نفقات باهظة، تفوق إمكانياتهم المادية، ما يجعل المستقبل أمام الفتبات مبهم الملامح، وقد يرمين بأنفسهن في دوامة الزواج المبكر، كما هو الحال مع عبير، في محاولة للهروب من هذا الواقع المظلم، وفي حالات أخرى تكون الضغوطات العائلية والاجتماعية على الفتيات كبيرة تصل حدّ الإكراه، وفي النهاية تكون النتيجة تماماً كحالة عبير التي ما تزال تعيش حلم الأمومة، بعد إسقاطات متكرّرة لم يحتملها جسدها الغض.

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!