-
روسيا إلى حلف الناتو
غزو روسيا لأوكرانيا هو المفتاح الذي سيستخدمه الغرب لولوج النظام العالمي الجديد، فالعالم الذي نراه اليوم صيغة بائدة، قرر الغرب تغييرها لاستيعاب المتغيرات التي طرأت على العالم تراكمياً منذ انتهاء الحرب الباردة، وجعلت من غير الممكن الاستمرار بهذا النمط من النظام، واستباقاً لمتغيرات مفاجئة أو كبيرة قد تخرج عن السيطرة وتفقد الغرب سطوته الكونية، كانت هذه الحرب الطريق الملتوي المار على دماء الأوكرانيين لإرساء قواعد النظام العالمي الجديد.
شهدت ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي انطلاق الاقتصاد الصيني الممنهج بعناية ورويّة بسرعة صاروخية متجاوزاً اقتصاد روسيا الشاسعة والدول الأوروبية المتطورة منفردة، حتى بات منافساً للاقتصاد الأمريكي الأقوى، ومهدداً بتجاوزه في غمضة عين.
بالتوازي، عملت الصين بصمت على بناء قدرات عسكرية عملاقة عالية التقنية، بنت أسطولاً بحرياً مزوّداً بحاملات طائرات عملاقة تحمل صواريخ نووية وتقليدية تعبر القارات بسرعة تتجاوز الصوت، وأقامت جزراً عسكرية بمنطقة فيها مطارات تنطلق منها طائرات حديثة تضاهي ما تملكه أمريكا ومعها الدول الأوروبية.
أمريكا كانت تراقب الصين ونموّها متعدد الجوانب، لكنها لم تتعامل معها على أنها عدو قادم محتمل، بل عملت على بناء علاقات اقتصادية قوية معها مستغلة أسعار منتجانتها الرخيصة، وغدت الشريك الاقتصادي الأكبر لها، لكن في السنوات العشر الأخيرة بدأت تتلمس طربوشها السيادي مع تمدد الوجود الصيني اقتصادياً وعسكرياً في إفريقيا وأمريكا الجنوبية ووسط آسيا، وراحت تبحث عن حلّ يحفظ النظام العالمي القائم، أو تبني جديداً على مقاس رغباتها، يحفظ قيادتها للكون.
كان عليها بداية أن تبني تحالفات إضافية، إلى جوار الناتو، فشجعت، بل دفعت، بريطاينا للخروج من الاتحاد الأوروبي، لتصيب عصفورين بحجر واحد، فتضعف أوروبا اقتصادياً وتتخلص من منافستها لها، وتبني تحالفاً عسكرياً وثيقاً مع بريطاينا وأستراليا كلبنة أساسية في البناء العالمي الجديد.
كل هذا لا يكفي لمواجهة المارد الصيني الذي يزداد ابتلاعاً للعالم، إذ لا يمكن للوسائل التقليدية، كالعقوبات الاقتصادية، كبحه وقد فتح أسواقاً لا يمكن إغلاقها وبنى شراكات كثيرة تقيه الغضب الغربي، وكان لا بد من إجراء تغييرات كبيرة لاختراق جدار الصين العظيم.
الحرب لا يمكن أن تكون الحلّ لأنها ستفني العالم، فالطرفان متخمان بالسلاح النووي، وكلاهما لا يريدان متابعة مشهد نهاية العالم، وبما أنه ليس للاستخدام بل للتعليق على الحائط، تتم المعارك بالعصي، سيضرب الغرب الصين بالعصا على نقطة ضعفها وهي موارد الطاقة، ورغم أنه يستطيع منع أو التحكم بواردات الصين من الغاز والنفط الخليجي، إلا أنه يمكن لها أن تستبدلها كليّاً من إيران وروسيا، وهذا ما تعمل أمريكا والغرب على محاولة ضبطه أيضاً.
وما التحرك الأمريكي لبناء تحالف عربي إسرائيلي بقيادة أمريكا إلا للضغط على إيران وفرض التزامها بالنظام العالمي الجديد، وهي ستقبل مرغمة خوفاً من حرب تنهي ثورتها الإسلامية وحكم الملالي، وهي التي لا تملك رادعاً معلّقاً على الجدار.
العمل جار اليوم على ضبط المورد الأخير للطاقة المتمثل بروسيا، التي يمكنها تلبية متطلبات الصين بمفردها من الغاز والنفط، وتعتبر الحرب الأوكرانية المدخل لغرفة التحكم، فإما منح بوتين انتصاراً يرضي غروره ويقتنع بدخول البناء الجديد، أو دفعه لارتكاب خطأ يودي به، وتأتي بقيادة روسية غربية تماماً.
السيناريو الأول، انتصار يسمح به الغرب في أوكرانيا، يجعل بوتين يقتنع بأنه حقق أهدافه، مقابل اشتراكه في بناء النظام العالمي الجديد وربما دخوله في الاتحاد الأوروبي، بل وحلف الناتو أيضاً لمواجهة الصين، وهذا لا شك يقتضي مغريات إضافية يقدمها له الغرب، وهو لا يمانع بجعله شريكاً اقتصادياً وسياسياً، لكن ماذا لو رفض المغرور بوتين هذا العرض؟
سيكون على الغرب أن يهزم بوتين في أوكرانيا لإرغامه إما للرضوخ أو ارتكاب خطأ كبير كاستخدام سلاح نووي من نوع ما يدفع للإطاحة به من الداخل بتشجيع غربي، لتبرز للمشهد قيادة أقرب للغرب تشترك معه في بناء العالم الجديد.
علّها سنة، أكثر أو أقل قليلاً، وتكون ملامح النظام العالمي الجديد قد ارتسمت، ويكون العالم، كل العالم، بمواجهة الصين يحاصرها اقتصادياً يتحكم بموارد طاقتها، ويجعل منها عنوة جزءاً من هذا النظام، حسب الحجم المقرر لها، لكن كما قال ماكرون "علينا عدم إذلال روسيا في أوكرانيا"، هنا أيضاً لا يجب إذلال الصين وهي الكبيرة جداً، تتحكم بها منظومة ديكتاتورية مغرورة بحجمها، كي يبقى العالم.
ليفانت – عبد السلام حاج بكري
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!