الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
صناعة الاستبداد في سوريا
  عبد الناصر الحسين

برهنت الوقائع التاريخية أن «نظام الأسد» لم يكن يحمل أي برنامج حقيقي لبناء «سوريا» القوية المتطورة المنافسة. بل على العكس تماماً فقد كانت ولادة «البعث» إيذاناً بحقبة من الظلم والظلام، والجهل والتخلف، حتى لو أعلن البعث عن مبادىء نظرية مؤطَّرة بقوالب منمقة في بعض اتجاهاتها، لكن حقيقة الأمر تقول بغير ذلك، وتخبر بأن منهاج البعث التطبيقي كان يحمل الطابع «العسكري الحربوي الأمني».

منذ وصول «حافظ الأسد» إلى السلطة انطفأت أضواء سوريا تدريجياً، ودخلت في ظلمات «الاستبداد المركب»، والديكتاتورية الممنهجة، بمعنى أنه تم إخضاع المجتمع السوري لبرنامج تأهيلي لجعله يقبل بواقع العبودية "لتصير العبودية أعلى مراتب الوطنية".

ما إن وصل «حافظ الأسد» إلى السلطة حتى شرع بتنفيذ برنامج ديكتاتوري شديد التعقيد، وتمكن من إدخال المادة التربوية «الترويضية» إلى هذا البرنامج، وفي كل مفاصل الحياة التعليمية والمدنية والعسكرية والسياسية، يرافقه عملية تأهيل نفسي للقبول والرضا بأي شيء يفرض على الناس فرضاً، حتى وصلت الأمور إلى توظيف فئة تدّعي الثقافة مهمتها فقط أن تطالب المستبد بمزيد من الظلم والاستبداد، بزعم أن ذلك يصبّ في صالح الوطن والمواطنين، لتنتشر بعد ذلك ثقافة أن «الشعب لا يستقيم إلا بالقوة، ولا تليق به الديمقراطية».

وعمل «حافظ الأسد» على عزل المجتمع السوري عن الآفاق العالمية الخارجية، ووضع للمخالفين قوانين وضوابط تعاقبهم فيما لو أطلّوا من النوافذ الضيقة للأسوار العالية باتجاه العالم المتحضر تحديداً، معتبراً ذلك خيانة عظمى.

أغلق «الأسد الأب» كل نوافذ الوطن وأرخى الستائر عليها، حتى لا يرى الناس ما ينعم به العالم من حرية ورخاء وتنمية، لكنه في الوقت ذاته ترك نوافذ واسعة تسمح للشعب السوري بمتابعة تطورات كل من المجتمعين الإيراني والروسي، على اعتبار هذا المعسكر أنموذجاً مناسباً لسوريا.

كما عمل الأسد الأب على إلغاء أي شكل من أشكال الحريات السياسية والفكرية والثقافية والمدنية، فكمَّم الأفواه، ووضع العقول المستنيرة في صناديق مغلقة، وصادر كل أنواع المعارف إلا تلك التي تكرس واقع القداسة للقائد، وحذف كل الشخصيات الوطنية التي يمكن أن تشكل خطراً على تأطيراته المعرفية، لكيلا يرى الناس إلا القائد الأوحد.

فأضفى أتباعه عليه أوصاف القداسة والفخامة، وتسابقوا في اختراع التعابير اللافتة، فهو القائد الرمز، والرقم الصعب، وهو ظاهرة وضرورة واستثناء، وهو الملهم الذي لا يخطئ، وأقواله منهاج حياة ومنارة مستقبل، وعلى الناس أن يؤمنوا بأن الأسد يمارس عين الصواب حين يقع في صميم الخطأ، ويسجل أروع الانتصارات حتى حين يهزم أفدح الهزائم، وهو محور للعالم المنشغل به وبإنجازاته، هو الأب القائد الذي يجب عليك أن تعتذر منه إذا ظلمك، وأن تهتف بحياته وتفديه بالروح والدم إذا عفا عنك بعد العقوبة الجائرة.

لقد مارس نظام «الأسد الأب» على الشعب السوري ديكتاتورية لا مثيل لها، فوظف الناس كعيون له، لتتفسخ الضمائر وتفسد العلاقات الاجتماعية، كما لعب على كل أوتار الفرقة في البنية المجتمعية السورية، كالقبلية والعنصرية والحزبية والفئوية، ليدير كل أنواع الصراعات بما يخدم عرشه الأوحد.

ومارس نظام الأسد الطائفية بكل أبعادها في الجيش والوظائف والتعيينات والامتيازات، ليكون لطائفته الحظ الأوفر في الفرص، وفي الوقت الذي كان يمارس فيه الطائفية عملياً، فقد منع أي شكل من أشكال الحديث عن الطائفية، لتبقى تلك العورة مستورة مهما بالغ في ممارستها.

كما أشاع الفساد في صفوف المجتمع السوري، فانتشرت الرشوة والمحسوبية، إلى درجة أن المواطن لا يستطيع أن يحقق مصالحه إلا بالتزلف للكبار والأعيان، فيبذل جزءاً من كرامته على أعتاب «صغار الطواغيت»، ثم يعود يلملمها وهو خارج من مكاتبهم، ليتباهى بها بين الناس، واستشرى الفساد في المجتمع السوري حتى صار الفساد ثقافة وتقليداً تصعب معالجته ومحاربته، لأنه محميّ أصلاً من طواغيت السلطة والمال.

وأدخل برنامج الاستبداد بقوة إلى مناهج التعليم، لتتشرّب الأجيال رهبة القائد مع كل حرف يدرسونه ومع كل هتاف يهتفونه، ومع كل أنشودة تتغنى بأمجاد القائد الفذ، وعلى الأجيال كلها أن تؤمن بأن سوريا كلها مختزلة بالقائد، فسوريا هي الأسد، والأسد باق إلى الأبد.

تمكن ديكتاتور سوريا من حماية سلطانه بتكريس حالتين تشبهان -إلى حد بعيد- العقيدة والإيمان: الحالة الأولى تتعلق بحقن المجتمع السوري بمناعة ضد أي تمرد محتمل، ليطمئن الأسد بأن المجتمع السوري لا يمكن أن ينقلب عليه مهما ساءت الظروف. والحالة الثانية هي مناعة المجتمع السوري ضد فكرة التدخل الخارجي لإزالته، فعندما يتشكل أي خطر خارجي ضد الأسد فأول من يتطوع لنجدته هم المعارضون لحكمه إن وجدوا، لأنهم مقتنعون بأن الاعتداء على الأسد هو اعتداء على سوريا، وما على المعارضة إلا أن تثبت وطنيتها بالدفاع عن الأسد، وبذلك أمِنَ الأسد من الشرّين: التمرد الداخلي، والتدخل الخارجي.

لم يكن طاغية سوريا الكبير أميناً على الوطن مطلقاً، بل كان يخطط منذ اللحظة الأولى لاعتلائه السلطة من أجل اعتصار سوريا وسحب ما يستطيع من خيراتها، حتى إذا صار الوطن «متاعاً مستعملاً» فإنه لا يبالي ببيعه بأبخس الأثمان، على شكل «خردة» في المزاد العلني، لكل من يسهم في دعم بقائه في السلطة.

نظام الأسد البعثي الإرهابي لم يتقن صناعة المدارس والمشافي والمراكز الثقافية وصالونات الفكر ونوادي المعرفة ومعامل الكيمياء، لكنه نجح في صناعة السجون والمعتقلات ومعسكرات القتل. نجح في [صناعة الاستبداد] وتطبيع الاستعباد وترويج الفساد، وتلطيخ سوريا بالسواد.

 

ليفانت - عبد الناصر الحسين

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!