-
عن اللغة الإبداعية والتوليد
من العسير الوصول إلى تصوّر ناجز عن اللغة الإبداعية إلا أنني سأتطرق إلى الجانب القيمي والحسي والمعرفي الذي نستولده منها في طور خلق أي جنس أدبي وإلى مدى القدرة على تطويعها لأجل نص أو محتوى أو دفق شعوري نستطيع من خلاله استدراجها إلى حيث تضيء على أحوالنا وهواجسنا وأفكارنا.
إن القول العربية صحراء جافة وغير مولدة للمعاني قول انفعالي وجائر فلو لم يكن هذا التوليد والاستنطاق والاستفزاز للكلمات الجامدة الملقاة على صفحات المعاجم ممكناً لرفعت الأقلام ونضب الكلام عبر مئات السنين من التداول والأعمال والكتب الأدبية والحكايات المتشابهة. إذاً أين تكمن المشكلة في تعاطي اللغة الأدبية ولا سيما لغة الشعر.. وكيف ترقى إلى منزلة اللغة الإبداعية؟
إنها في الكثير من المقروء المستنفذ لطاقته الإبداعية، الذي لا يستدرجنا إلى هويته ولا يبلغنا وجدانياً وشعورياً كأن يولد النص عقيم الفكرة أو يتيم الهوى (الميول والأهواء)، أو عاقاً لخالقه عقوق الإبداع لغالبية متمرسي اللغة وأكاديمييها الذين يرتكبون الكتابة ظناً منهم أنهم امتلكوا ناصية الكلمة وتحولاتها ومداراتها أو أن يكون مجافيا لتحرر الأفكار التي لا تحتمل الزجر والتطرّف، ناهيك عن افتقاره للأخيلة والرؤى والحس الفطري تجاه الأشياء والمعاني ومكونات الحياة، أو أن يقع النص في المحظور، فيأتي سافراً سفور الخطاب المباشر أو متخشباً مستسلماً لقواعد النحو والصرف الصارمة أو مجسداً للواقع تجسيداً منطقياً ساكناً دون ملمح خلّاق أو نماء يؤسس لهوية أو نفحة وجودية وطاقة شعرية. وعلى ما سبق علينا ألا نستغرب كيف يخرج علينا نص خاو خواء الزرع من الثمر وجاف جفاف النهر من طور الماء.
مثل هذه الانطباعات التي تتسلل خفية إلى القارئ النوعي، لا يمكن وضع اليد صراحة عليها لأن الكتابة الأدبية ليست عملية رياضية أو قياسية أو ذهنية بقدر ما هي تيار وجداني وتفاعلي يُحَس ويُستخلَص ويتسرّب عبر القراءة الكلية ومدى الانشغال والشغف بالنص ليشكل تصوراً ينتمي في نهاية المطاف إلى القول الخامل المتغضن الجاف أو إلى الكلام الحي النبات.
مثل هذه النصوص والأسلوبية ذات الكعب القصير لا تشفع لها دوافع البوح والتحقق على بلاط الشعر ولا مواقع الريادة والفصاحة والتسيد اللغوي، وغير معفاة من تهمة الركود وضحالة التناول وامتهان الشعر عبر بقائها في دوامة اللفظ المستهلك المتصحر والخامل عند حدود الظواهر الصوتية اللغوية والتجنيس الأدبي واقتصار تلك النصوص على القشور المعرفية أو حتى الأحاسيس المجانية المبعثرة والفاقدة بالضرورة لأساسيات المنتج الأدبي المتجدد والمبتكر.
إنّ النص الشعري الذي يبنى بناء وظيفياً ولغوياً سليماً، والذي ينهل من الأدوات والقوالب ويتمترس في أتون المعنى المعجمي يبقى قاصراً ما لم يأخذ بتوليفة الكلام المعتمِد على أقطاب كثيرة قد تتجاذب أو تتنافر فيما بينها، وما لم يزاوج بين أساليب الربط والعرض والصياغة المقرونة بالأفكار والمشحونة بالعاطفة والمدفوعة بالشعور الإنساني العميق المتفرد والخلّاق، هو النص الفقير المحتكم إلى مرجعيات من خارجه والنازع نحو الفائض من المشاهدات البصرية والصور المجردة والاعتيادية البعيدة كل البعد عن التخلق وتقصي المدهش والمهجور والغائم في النفس، التخلق الذي هو نفسه الإبداع والمحرك الأساس في توليف المعنى وتوليد اللغة وتشذيبها واستنطاقها وتقويلها ذواتنا عبر اكتشاف لحظاتنا اللصيقة بألمها وفرحها، شغبها وضجرها، مواقفنا وآرائنا، أحلامنا وخيباتنا.. وذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفهم الحسي والمعرفي والنفسي للشعر عموماً، وللمفردة بحرارتها وطاقتها الكامنة خصوصاً، ولمصفوفة الكلمات في تواشج مدلولاتها واقترانها بالتلقف القيمي الواعي للمعاني والدفق الشعوري اللاواعي لتيارات العاطفة وأصدائها وانزياحاتها.
ففي التناول الشعري تبقى المفردات غيمة جافة حتى نستمطرها بانفعالاتنا وأخيلتنا وخلجاتنا ونمضي باتجاه اقترانها بعلائق نوعية فيما بينها أو بين مجالها المشع واستخداماتنا المجدية لها دون التعدي على كينونتها وإمكانياتها بقسرها ودفعها نحو مصائر فاجرة تفوق طيفها كي لا تتورم على الورق وتفقد حيويتها وتأثيرها في النفس والذائقة وهذا يعتمد كل الاعتماد على خلفية الكاتب الثقافية العارفة وعلى نضجه الروحي وكنه سريرته الشاعرة وموهبته وإحساسه العميق تجاه الأشياء والكون وبمسباره الخاص وزاويته التي ينظر من خلالها إلى الحياة ليتشكل عبر هذه المزاوجة لمحاً خاصاً لدى القارئ، لمحاً يخطر كرفة قلب هو أشبه بسيالة خاطفة ترشف من دم اللحظة الحميمة، وتتمايز عبر الانخطاف والانشداه الشعوري نحو لحظات مهجورة لا نزورها في حياتنا اليومية.
تلك اللحظات التي تتسامى وتتألق عبر الروح الأثيرية للشاعر لتغدو الصياغة هيمانة، والمعنى منتشياً بلذة الخلق وبالانتهاكات المشروعة للغزو الجمالي والحسي لروح القارئ المنصت لينفذ الشعور السهمي ويتفوق على قامة الكلمات ويتسامى إلى فضاءات ممتلئة بالخصب والنورانية، خصب يفوق تربة النص الساكنة من خلال سطوع المعاني البسيطة المغفلة والأفكار المهمشة التي يعيد الشاعر إنتاجها ودوزنتها عبر الصور المتّسقة والرمز والمجاز والتشبيه والانزياحات والاستعارات وإلى ما ذلك من أنساق كاشفة تستحضر الغائب وتتفجر بالمعاني الإنسانية التي تحفل بالدهشة والصدق والعفوية، والتي يكتمل ألقها بالفكرة والمعنى المفقود أو المنشود الذي يصلنا كخمرة تنتشي بها الروح وتعلو إلى برزخ من اللطافة والرقة والعذوبة والفيض الروحي العارم، بالإضافة إلى ما نستشعره من الكيمياء الإنسانية المتفردة للكاتب والطافية فوق سيالة الكلام.
تلك الشيفرة ذات الذبذبات الممغنطة التي تمسك بأيدي الأدوات في مختبر النفس والسريرة وتقودها إلى الإشعاع في سماء النص، وهنا في هذه المرحلة البالغة ندرك سبب تماهينا مع نص دون الآخر، لا سيما أن القارئ المتذوّق واليقظ لا يخفى عليه الإقحام والابتذال والافتعال والمواربة اللفظية وجمود الكلام وخفوت المعاني في الكثير من العلائق اللغوية اللاشعرية، لاسيما المنغلقة على ذاتها وتناقضها الصارخ حين تعتمد على المزاوجة الشكلية للكلام وفق مقتضياته البنائية والفنية والتي لا تنبع من أعماق المشهد وطلاقة المعنى وعفويته، فلا تنتمي إليه إلا خارجياً، وتعجز عن التأثير أو التجديد أو الإمتاع والدهشة ما دامت مصاهرة لفظية ظاهرية لا تتأتى من معانٍ ملامسة للجوهر الإنساني ولجبلة العاطفة، وغير معنية بوحدة الذات الشاعرة مع القصيدة، وتمثلها في وحدة عضوية لا مساس بها لتسمو بالشعر الذي وإن أورق واكتسى بالكثير من فنون الكلام، إلا أنّ جذره عار عري الحقائق الأولى والفطرة الأولى والدهشة الأولى التي قوامها الشعور الصادق الذي لا يحتمل تدليساً أو مواربة أو مكابرة، مع الأخذ بالحسبان أنّ النصوص الباهتة في تحولها إلى الملموس المستهلك والرتيب الفاتر لم تعد تغري وتستولي على ذائقة إنسان العصر الراهن الذي أصابه السأم من الحشد والتنظير وتكريس مفاهيم قيمية جوفاء وغنائيات ومرثيات لا تنتمي لتطلعاته ولا تشبهه ولا تمثل روحه المتوثبة للكشف والتجاوز والتجدد وبات يسعى إلى التفلت من الماضي والنمطية والحتمية والقوالب والخطابات والأدلجة والقول الحسم ليكون أكثر إصغاء لروحه والتصاقاً بإنسانيته وإدراكاً لذاته المغيبة.
إن الاقتراب من اللغة الإبداعية سفر شائك محفوف بالمعرفة ينهل من الإحساس العميق بالموجودات ومفردات الحياة، وهو موهبة تتجلّى فيها السمة الإبداعية وتتجوهر وتشف لتبلغ أسمى درجاتها حين تنصاع لها اللغة وظيفياً وفنياً وليس العكس.
إن اللغة الإبداعية أشبه بالنحت في الفلذات الداخلية المكونة للطين الإنساني لاستجلاء ماهية الأرواح واستخلاص الإكسير القليل منها واستنهاض التشاركية الفاعلة مع القارئ كما لو أنها استبدال للأماكن بينهما في الجانب التخييلي والتجارب المعاشة، إنها رحلة في المجهول بدءاً من مخاض التشكل والأخيلة الناهضة في المدى المجدي للكلمة مروراً بالنمو الروحي للعاطفة وليس انتهاء بلطافة الطاقات المؤنسنة للحياة، والمتنسمة هواء الأدب المنعش.
ليفانت - سناء فهد هلال
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!