الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
في العراق تضرب الأمثال وتقاس
كفاح محمود كريم

يتمتع العراقيون بكافة مكوناتهم وأطيافهم بل ويتميزون عن كثير من الشعوب بوفرة أمثالهم التي تعبر عن قصص أو حكم أو تختصر تجارب ونصائح، ومثلها أيضا ما تسمى عراقياً بـ (الحسجة) التي تتميز بها مجتمعات وسط وجنوب العراق، وهي نوع من أنواع البلاغة في القول والشعر كما أنها تختزل في أماكن أخرى مقولة (إياك أعني فاسمعي يا جارة) بأسلوب فكاهي أو على شكل تساؤل عن بعد، وفي كل المعاني هي وبقية الأمثال صيغ متقدمة من صيغ التعبير عن الرأي وتصوير لقطات واقعية من حركة الفرد والمجتمع.

 وفي مقالنا هذا سنتناول واحداً من تلك الأمثال التي تطرقنا إليها في مقال سابق قبل سنوات وهو (لا تطلب الدبس من النمس)، وللوهلة الأولى وأنا أستمع لهذا المثل العراقي ظننته يقصد ذلك الحيوان الذي يرعب الأفاعي ويصطادها بسرعة مذهلة، لكنني أدركت فيما بعد أن الدبس والنمس مفردتان شكٌلهما الدارج المحلي للتعبير عن الرجاء الذي ليس في محله، وقد تداولتهما الأجيال في توصيف أولئك الذين لا يرتجى منهم خيراً، والدبس هو عصير التمر المعروف، أما النمس فهي مفردة لها معاني عديدة وما يعنينا واحدة من تلك المعاني وهي النتانة وليس الحيوان المعروف كثيراً في إفريقيا وجنوب شرق آسيا، والنماسة تعني الوساخة أي عدم النظافة تحديداً، وهي بالتالي تعني النتانة في السلوك السياسي إذا ما تم تكييفها في توصيف التعاطي السياسي المنحرف.

وإذا كانت الأمثال تضرب ولا تقاس للتخلص من حرج المعني بـ (إياك أعني فاسمعي يا جارة) فإن المستنقع الذي صنعته بعض القوى الممغنطة بالشمولية وعقلية تكثيف السلطة بيد فرد أو مجموعات ميليشياوية على غرار ما مر به العراق منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، فإنها هنا تضرب لتقاس على أولئك الذين يصرون على إبقاء كرة المشاكل السياسية تتدحرج لتكون عائقاً أمام تطبيق الدستور ومواده الفيدرالية وتمنع ردم الحفر والعوائق أمام تبليط الطرق بين بغداد وأربيل.

وما يحصل اليوم من كر وفر ومن جولات مكوكية بين الإقليم والحكومة الاتحادية في بغداد وتوقيع اتفاقيات وتفاهمات، لا يكاد حبرها يجف حتى يتم الإيعاز إلى فرق الأغلبية في البرلمان كي تلغيها وتنقلب عليها، كما حصل في تشريع قانون الموازنة أو قبلها في اتفاقيات كثيرة مع بغداد، لتصبح مهزلة ومسرحية مثيرة للأشجان والسخرية معاً، حيث توهم البعض أن الطاقم الحاكم الحالي في العراق قادر على حل تلك الإشكاليات التي صنعتها الدولة العميقة منذ استحواذها على كراسي السلطة باستخدام سلالم صناديق الفتاوى والطائفية والسحت الحرام وديمقراطيتها العرجاء، ونجحت في تنفيذ مشاريع أزمات وإشكاليات لتحقيق الأهداف المنشودة في إقامة نظام أيديولوجي ذي خلفية دينية مذهبية، وإلغاء ما جاء في الدستور، بعد فرض نظام الأغلبية الذي يتيح لهم تشريع قوانين أو رفض اتفاقيات مع الإقليم، بل ويطمحون لتعطيل الدستور ومحاولة إفراغه من مضامينه الفيدرالية من خلال تجريد الإقليم من صلاحياته بفرض حصار اقتصادي عليه واللعب على معاشات موظفيه وإشاعة الفرقة بين أحزابه ومكوناته السياسية.

إن ما يجري اليوم وتداعيات الوضع الإقليمي يؤكد أن المشهد القادم لن يكون أفضل مما مضى إن لم يكن أسوء، حيث تبلور نظام شمولي فوضوي بأذرع ميليشياوية مشرعنة تمتلك أذرعاً متنفذة في البرلمان ومفاصل الدولة المهمة وجهازها المالي تسبب في انهيار الدولة التي تعود اليوم إلى المربع الأول حيث تعجز أي قوة داخلية من إحداث تغيير جذري في طبيعة هذا النظام المعقد كما كان نظام صدام حسين، حيث وقعت البلاد تحت احتلال كان يفترض أن يكون محرراً لكنه للأسف بعد عقدين من الزمان جعل ثلثي السكان يحنون إلى وحشية النظام السابق بعد أن غدت دولتهم واحدة من أفشل دول العالم وأكثرها فساداً تحت وطأة حكم نماسة الميليشيات.

ليفانت - كفاح محمود

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!