الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • في العلاقات التكتيكية بين قوى الصراع.. وطبيعة الصفقات السياسية المطروحة

في العلاقات التكتيكية بين قوى الصراع.. وطبيعة الصفقات السياسية المطروحة
نزار بعريني

بين الكثير من التعثّر وتغيير الاتجاه، واحتمالات التصادم، تطرح الحركة الراهنة لقطاري العلاقات التركية الأمريكية والتركية الروسية/ الإيرانية تساؤلات مهمّة حول طبيعة التسويات التي يتمّ تحضيرها على نار هادئة، وطبيعة الدور التركي "المتميّز" في معادلات الصراع الروسي الأمريكي في هذه المرحلة من ترتيبات التسوية السياسية، وتشير إلى درجة حالة الانقسام وانعدام الوزن السياسي لجميع السوريين فيما يُسمى النظام والمعارضات، وفي الرأي العام.

تعطيل لقاء مرتقب بين وزير الخارجية التركي والسوري، كان متوقعاً يوم السبت/ ١٤ الجاري، ووصول جاويش أوغلو إلى واشنطن بزيارة عاجلة، يوم الأربعاء/ ١٨، يسبقها بأقل من ٢٤ ساعة زيارة لوزير الخارجية الإيراني إلى أنقرة.

التساؤل الذي يطرح نفسه: ما الذي عطّل استمرار سير قطار التطبيع بين دمشق وأنقرة، وأجّل لقاء مولود جاويش أوغلو بفيصل المقداد في موسكو يوم السبت؟ هل هي سياسات النظام الإيراني المتضررة من تقدّم مشروع التطبيع أم معارضة الولايات المتّحدة؟ لا يوجد أخبار مؤكّدة، لكن ثمّة مؤشّرات. مسعى وزير الخارجية الإيراني للقاء نظيره التركي في أنقرة، قبل مغادرة الأخير إلى واشنطن، هي مؤشّر واضح.

من جانب آخر، ما حدث من تطوّر في العلاقات التركية الأمريكية قبل إعلان تأجيل زيارة موسكو وبعدها، الذي أتى كما بدا، على خلفية تصريحات نارية ضد أنقرة في دمشق.

تتحدّث مصادر متطابقة في واشنطن وأنقرة عن مسعى أمريكي للوصول إلى صفقة مع تركيا، على حساب تطوّر العلاقات "التطبيعيّة" السورية التركية، وقد كشف تعليق مصوّر للعميد أحمد رحال عن تفاصيل "صفقة" جديدة (١). المؤكّد هو ظهور بوادر جهود أمريكية لتحسين العلاقات مع تركيا، عبّرت عنها زيارات عدّة وفود أمريكية إلى أنقرة خلال الأسابيع الماضية، تخلّلها إعلان البيت الأبيض موافقته على إتمام صفقة طائرات ف-١٦ مع ٩٠٠ صاروخ جو- جو، و٨٠٠ قنبلة ذكية، في صفقة تبلغ قيمتها ٢٧ مليار دولار، إضافة إلى ترتيبات خاصّة، تتعلّق بتهدئة التوتر مع اليونان، وإنضاج ظروف انضمام السويد إلى الناتو.

سلّة الجزر الأمريكية لم تمنع واشنطن من التلويح بعصا العقوبات المفروضة على النظام، والمطبعّين معه، في وقت بات فيه الاقتصاد التركي بأمسّ الحاجة إلى حقنة تنشيط قويّة، تُضعف أوراق المعارضة. هذا السلوك الأمريكي "الساعي لكسب رضى أنقرة"، يبيّن حقيقة ما بات عليه الوزن التركي الثقيل في معادلات الصراع الجيوسياسي على سوريا، الذي أصبح أقرب إلى "بيضّة القبّان "التي ترجّح ميل كفّة خطط التسوية السياسية لصالح أيٌّ من المشاريع المتنافسة، الروسية أو الأمريكية.

على أيّة حال، كيف نفهم طبيعة المشاريع السياسية المطروحة، ومواقع تنابذ أو تجاذب القوى التي تحتلّ سوريا، وتسعى للوصول إلى تسوية سياسية، تشرعن حقائق الواقع التي رسمتها موازين قوى الصراع، في محاورها الثلاث الرئيسة التركي والأمريكي والروسي، خلال حروب تقاسم الحصص ومناطق النفوذ بين ٢٠١٥- ٢٠٢٠، وتضمن استمرارها.

إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ المرحلة الراهنة من "الخيار العسكري الطائفي"، (الذي نجح تقاطع مصالح وسياسات جبهة عريضة، سوريّة وإقليمية ودولية، في إطلاق صيرورته بين منتصف ٢٠١١-٢٠١٢، بما يتعارض مع سياسات تركيا ومصالحها العليا)، هي مرحلة التسويّة السياسية، لشرعنة ما توصّلت إليه الاتفاقات السياسية الروسية التركية (الأمريكية) خلال ربيع ٢٠٢٠ حول خارطة السيطرة الجيوسياسية لسوريا الجديدة، وفقاً لخارطة توزيع الحصص ومناطق النفوذ التي أصبحت عليها السيطرة الجيوميليشاويّة في ضوء  اتفاقيات ٥ آذار٢٠٢٠، وما صنعته من وقائع جديدة موازين قوى الصراع العسكرية بين ٢٠١٥- ٢٠٢٠، أعتقد أنّه في جوهر سياسات واشنطن، (ومن أجل ضمان سيطرة  الولايات المتّحدة على  كامل حصّتها  التي اقتطعتها بتوافقات شراكة استراتيجية مع وكيلها "قسد" وتحت يافطة مكافحة "داعش"، التي باتت تشكّل قلب سوريا الاقتصادي وأكثر عوامل تهديد وحدتها الجيوسياسية فاعلية، وتعطيها "اليد العليا" في تحديد مآلات "التسوية السياسية" ومستقبل سوريا، وعقدة وصل وتحكّم  استراتيجية بين قواعدها في العراق وتركيا)، تسعى السياسات الأمريكية لفرض رؤية واشنطن لخطّة تسوية سياسية شاملة، تقوم على مبدأ قيام تهدئة مستدامة بين جميع سلطات الأمر الواقع، وخارطة طريق تأهيل متزامن، يحافظ على الحصص ومناطق النفوذ التي صنعتها حروب تقاسم الحصص بين ٢٠١٥- ٢٠٢٠؛ وتأمل واشنطن أن  تصل "مفاوضات" اللجنة الدستورية إلى توافقات تشكيل "حكومة وحدة وطنية"، تمثّل  واجهة  عبور للمرحلة الجديدة، وعلى حساب روح  القرار ٢٢٥٤ -هيئة حكم انتقالية مستقلّة ومفوّضة- وهو ما يجعل من سياسات واشنطن الخطر الأساس على آمال وأهداف السوريين المشتركة في قيام دولة سوريّة موحّدة وديمقراطية، بما تملكه من أوراق قوّة، وما تطرحه من مشاريع تسويات سياسية للحفاظ عليها.

فمن جهة، من الطبيعي أن تتعارض خطط السيطرة الأمريكية ومشروع تسويتها السياسية مع مصالح أنظمة روسيا وسوريا، اللتين تسعيان لفرض سيطرتهما على كامل الجغرافيا السوريّة؛ مع إمكانية ضمان مصالح الولايات المتّحدة وتركيا في إطار تسوية سياسية شاملة؛ وهي خطوات تسوية تتعارض نتائجها مع مصالح وأهداف وآمال جميع السوريين، الذين دفعوا أغلى الأثمان على طريق الانتقال السياسي والتحوّل الديمقراطي.

كما من الموضوعي والطبيعي، من جهة ثانية، أن تتناقض خطط السيطرة الأمريكية ومشروع تسويتها السياسية مع سياسات تركيا أيضاً، التي ترفض خاصّة استمرار سلطة ذاتية بقيادة مجموعة النخبة التي تسترشد بقيادات "قنديل"؛ وقد عجزت عن إقناع واشنطن بضرورة تحسين سلوك قسد، مقابل قيامها بضمان مصالحها، واستعدادها لإعادة هيكلة الميليشيات التي ارتبطت بمشروع مدّ حدود منطقتها الآمنة على حساب سلطة قسد، المرتبط بخطط مشروع "إعادة توطين" المهجّرين على امتداد شريط حدودي يصل إلى ٣٢ كم.

هذه اللوحة تبيّن أهداف الأطراف الرئيسة، وتشير إلى طبيعة الصفقات المحتملة، والتي تجعل من تركيا" بيضة القبّان" في ميزان قوى الصراع الروسي الأمريكي على الشكل النهائي للخارطة السياسية السورية.  

من نافل القول تساوق نتائج مشروع التسوية السياسية الأمريكي مع مصالح ورؤى طيف واسع من قوى المعارضات السوريّة، السياسية والميليشياوية؛ الذين يتحكّمون بسلطات الأمر الواقع القائمة عسكريّاً، أو الذين ربطوا مشاريعهم السياسية بديمومة بقائها؛ سواء تعلّق الأمر بسلطة قسد/ مسد، ومشروع "الإدارة الذاتية الديمقراطي"، أو قيام "كانتونات سنّية" تحت السيطرة التركية، وبالتالي تعارض سياقاتها مع مصالح جميع السوريين الذين يجدون في بقاء سوريا موحّدة جيوسياسيّاً هو الخيار الأفضل.

في الممكنات.. وطبيعة تأثيرها  على آمال  السوريين المشتركة

الخيار الممكن، وصول روسيا وتركيا والولايات المتّحدة  لصفقة تسوية سياسية على حساب سلطات الأمر الواقع  الجديدة، وفي سياق إعادة تأهيل سلطة النظام، وبما يضمن مصالح جميع قوى الاحتلال، يتضمّن هذا السياق تلبية أهم شروط تركيا بحصول صفقة بين النظام وقسد، (تحييد  على المدى القريب  هيمنة قيادة "قنديل" على سلطة الإدارة الذاتية، وتفكيك مرتكزاتها السورية)، وتحقيق بعض مصالح  واشنطن التي ربطتها بوجود سلطة قسد، كما تضمن تسوية سورية لأوراق القوّة التركية – السياسية والميليشياوية.

يسمح هذا الخيار بإعادة تدريجية  لسيطرة مؤسّسات النظام على كامل جغرافيا شمال سوريا، ويواجه رفضَ طيف واسع من المعارضات السوريّة، السياسية والميليشياوية، التي تتهدد مكتسباتها، إضافة إلى تناقضه على المدى الطويل مع أدوات السيطرة الإيرانية وأوراق قوّتها، التي راكمتها في إطار نتائج الخيار العسكري الطائفي التفشيليّة.

الخيار الأرجح، وصول تركيا والولايات المتّحدة إلى صفقة سياسية، شبه ثنائية، تضع روسيا أمام الأمر الواقع، وتتضمّن الاتفاق على آليات سيطرة مشتركة على شمال سوريا، شرق الفرات  وغربه، في سياق تقويض أدوات ووسائل هيمنة قيادة قنديل على قسد، من جهة، وإعادة هيكلة ميليشيات المعارضات المرتبطة بتركيا، من جهة ثانية، لصالح علاقات متنامية مع قيادة إقليم كردستان العراق؛ مع الأخذ بعين الاعتبار بعض مصالح روسيا وإيران والنظام في جغرافيّة الإقليم الجديد؛ وبما يعطي غطاءً ومشروعية أمريكية/ تركية لإجراءات إعادة تأهيل النظام السوري على سوريا المفيدة؛ وهو الخيار الأقرب لمشروع التسوية السياسية الأمريكي من حيث نتائجه المدمّرة لمقوّمات الدولة السورية الموحّدة، لكنّه يقاطع سياسات السيطرة التركية الأمريكية التي وضعها المشروع الأمريكي الأساسي، المستمرة جهوده منذ ٢٠١٥ في خنادق متواجهة إيجابيات هذا الخيار وسلبياته واضحة، وتحاول نخب المعارضة العمل على تجييره لصالحها، بما امتلكته من "حنكة" اللعب على أجندات القوى الخارجية، والقفز على  مراكبها المتحرّكة.

النتيجة الأبرز على بعض نخب المعارضة الكردية هو ما سيؤدّي إليه من سحب يافطة مشروع قيام "كانتون كردي" بدعم أمريكي، جعل الجميع يعوّل على سياسات واشنطن، ويبوّق لدعاياتها. واضح تماماً أنّ قيام مؤسسات  سلطة جديدة، موازية لسلطة دمشق، يؤسّس على المدى الطويل لتقسيم سوريا، ويتعارض مع مصالح السوريين المشتركة في قيام دولة سوريّة موحّدة، ديمقراطية.

الخيار الأسوأ، هو فشل الاحتمالات التوفيقيّة؛ لذهاب واشنطن إلى تكتيك المراوغة والتسويف في علاقاتها مع التركي والروسي، من أجل تعميق التناقضات في العلاقات التركية الروسية الجديدة، وشراء الوقت للدفع ميدانياً بجهود تعزيز مقوّمات "الكيان القسدي"، عسكرياً واقتصادياً، خاصّة عبر بوابة إقليم كردستان العراق، لوضع الجميع أمام الأمر الواقع، ورضوخهم بالتالي لإرادة واشنطن، وذهاب كلّ طرف لتعزيز أدوات سيطرته الكانتونية الخاصّة، بما يتوافق مع خطوات مسار التسوية السياسية الأمريكي الرئيس، في مسارات اعتراف موضوعي متبادل، وتأهيل متزامن لسلطات الأمر الواقع القائمة حالياً، وبما يعزّز عوامل تفشيل سوريا سياسيّاً، وتعميق تفاوت درجات معيشة  السوريين في أماكن خضوعهم الحالية، وبما يؤدّي، في ظل استمرار الوضع السياسي الحكومي العام، إلى  تفاقم ظروف  المقيمين في سوريا المفيدة  خاصّة،  على جميع الصعد والمستويات.

في هذا الخيار مصلحة أمريكية إيرانية/ إسرائيلية، وتعارض مع مصالح أنظمة تركيا وسوريا وروسيا، لأسباب مختلفة ؛ ومع مصالح جميع السوريين الوطنية  والقومية المشتركة، ويدغدغ أحلام الكانتون القسدي، وينعش آمال غطائه  الديمقراطي السوري، الذي تراهن رموزه وشخصياته وتياراته على  ديمومة مشروع قسد الأوجلاني، "الديمقراطي"، بحجّة ما سيشكّله من نموذج ديمقراطي، قابل للتعميم، وفي تجاهل لعوامل سياقات التأسيس والصيرورة.

(1) في إطلالة خاصّة، تحدّث العميد أحمد رحال عن المشروع الأمريكي، أو المبادرة التي يطرحها معهد "هديسون" من أجل توحيد السياستين التركية والأمريكية على قاعدة توحيد شرق الفرات وغربه، وعبر توحيد الجيش الوطني مع قوات سوريا الديمقراطية، والقوات الموجودة في التنف، بما يوحّد جميع القوى المعادية للنظام في إطار مشروع أمريكي، وبما يحجّم الوجود الايراني، والإرهاب الداعشي والايراني.

سبق هذا الطرح، اقتراح لـ"جميس جيفري"، قدّمه لبعض الشخصيات التركية على شكل مبادرة، لكنّها لم تجد إذناً صاغية لدى المسؤولين الأتراك بسبب انعدام الثقة.

ليفانت - نزار بعريني

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!