الوضع المظلم
الأربعاء ٠٦ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
قبسات من النقد الذاتي
ثائر عبود

لربما أهم ميزة تميّز الكائن البشري عن غيره من الكائنات المرافقة له على ظهر هذا الكوكب، والتي ميزنا بها الخالق عن غيرنا، ألا وهي ميزة العقل. ومن طبائع العقل السليم والحس القويم أنّ العقل يعارض نفسه في كثير من الأحيان، أي أنّه يحلّل ويدقّق ويعدّل ويصحّح، ويعيد تقييم نفسه ومحتواه ويراجع أخطاءه. النقد الذاتي


إنّ آلية عمل العقل الحي هذه هي التي كانت سبباً مباشراً في كل الاختراعات المادية والنظريات والفرضيات العلمية، وهي المحرّك الأساس الذي بدونه لا يمكن وجود التقدّم والتطور. من هنا فإنّ التفكير النقدي هو مفتاح النجاح في أي مسألة فكرية كانت أو مادية علمية أو قل ما شئت، ولا يدوم أمر ويستمر ما لم يكن العقل المسيّر له قادراً على اتخاذ القرارات وإدخال تعديلات واكتشاف الأخطاء وتلافيها.


من هذا المنطلق، أقول إنّ غياب التفكير النقدي وحرية التعبير ساهما إلى حد كبير في تراجع المجتمعات العربية على كافة الصعد والمجالات، ويفترض أن يكون ذلك الغياب هو الدافع الأساسي لحركات جماهيرية تطالب بتغيير هذا الجمود الجاثم على صدور الشعوب العربية، في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والأدب وكافة مناحي البنى الفوقية والتحتية، ولعلّي أسمي حالة الغياب هذه بالقاتل الخفيّ الذي يحمله أي عمل أو مشروع كبذرة موت في داخله. ولا شك أنّ معاداة النقد باعتباره ظاهرة سلبية يعزّز الجمود والعقم الفكري والاجتماعي، فيغدو كم هائل من الجماهير عبارة عن نسخ متشابهة تردد ذات المقولات وتجترّ ذات الأفكار فلا جديد ولا قيمة مضافة. لقد كانت مشكلتنا الأساس مع الأنظمة الحاكمة هي اعتمادها على مبادئ سقيمة في إدارة البلاد، ويمكن تكثيفها في مقولتين: "لسان الحق يقطع ولسان التملق يرفع"، "من ينتقدني فهو عدوي".


وهذا بالحقيقة يبدو جليّاً لكل ذي لب وعلم أنّها الوصفة الأنجع للانهيار والزوال، فحين تغلق عقلك ويضيق صدرك عن سماع الأفكار والاقتراحات والنقد والتصحيح، فأنت تقوم بعمل ضد نفسك وذاتك وتتقوقع في دائرة ضيقة منعزلة عن الزمان وعجلة التحديث المستمر، ولعل الفاقرة التي قصمت ظهور المفكرين وناظمي الفكر الثوري الحر الحي المتجدد، أنهم خرجوا من عباءة النظام هرباً من صفاته وأساليب إدارته وتعامله، ليصطدموا بوجود ذات الصفات بشكل أكثر كثافة وعناداً في المقلب الآخر.


الثورة تمنحك حق معارضتها ونقدها، هذه هي إحدى النواظم الثورية التي انطلقنا منها في العام 2011، والتي سرعان ما اختفت وأصبح كل من ينتقد أي جريمة أو خطيئة هو عميل للنظام ومغرض ومخرّب للثورة. فيال العجب كيف تقيم السماء الحجة على من يدّعي أمراً ما بوضعه موضع الاختبار، غابت حرية التعبير والنقد، والعملة الرديئة طردت العملة الجيدة، فوصلنا إلى الدرك الأسفل. ليس ذلك فحسب، بل إنّ الملتحقين بأمر ما بشكل متأخر تجدهم أكثر مزاودة وتشدداً وجهلاً به من الأوائل، وهنا بدأنا نسمع مقولات شاعرية فيها كم هائل من الكذب على الذات وعلى الآخرين وفيها مزاودات عقيمة، ظاهرها أنّها لرفع المعنويات، وباطنها فيه مقتل الثورات. على سبيل المثال لا الحصر، كلمات كهذه: "الثوة السورية أعظم ثورة في التاريخ، كل من انضم إلى الثورة فهو شريف حكماً"، وغيرها من المقولات السقيمة التي لا قيمة لها ولا وزن عند العقول الحيّة والنفوس النقيّة. فهل حقّاً كل من انضم إلى الثورة شريف حكماً؟ عجباً من أين أتى كل هذا الفساد والخراب الثوري إذاً؟ من أين أتى كل هذا التخبط والضياع والتيه الذي لم ينتهِ حتى اللحظة منذ عقد كامل؟


بالحقيقة إنّ من أشد الأمور وطأة على قلب ثائر صادق، أن يرى أن النواظم الثورية اختفت منذ الشهور الأولى وحل محلها فوضى فكرية وأخلاقية وسياسية وتخبط وقطيعية ونفاق وتكاذب ومزاودة. إنّ ممارسة النقد الذاتي أيها السادة هي المفتاح والطريق والباب لا غيرها، وكل من ينظر إلى النقد الثوري على أنّه عمالة وخيانة وكفر فما الفرق بينه وبين السجّان الظالم، أليست حرية التعبير هي دافعنا نحو التمرد أين هي؟


اسمحوا لي في عجالة أن أذكر بعض الممارسات والجرائم التي لا بد من محاكمتها في محاكم ثورية حقيقية، مجزرة جسر الشغور كأول عمل إجرامي دموي لوّث ثورة الشباب ومرّغها في وحل الأهواء وأسقطها في بئر عميق لا قرار له.


إنّ حرق وتقطيع أجساد أولئك العاملين في مفرزة جسر الشغور كان حرقاً وتقطيعاً لجسد الثورة لا غيرها، ولقد حصلنا على شهادات محايدة من أهل المنطقة من الصادقين، بأنّ عناصر تلك المفرزة لم يقتربوا من المظاهرات التي تمر عابرة بقربهم وتصدح بما شاءت من شعارات، وحصلنا في وقتها على أسماء المشاركين فيها وهذا ما لا يعرفه ثوار اليوم المحدثين على الموضة الثورية.


حادثة أخرى تم فيها دفن الثورة في مهدها، وهي تمثيلية مصورة بالفيديو لمجموعة من الأشخاص يفترض أنهم عناصر من جيش النظام يدفنون شخصاً وهو حي، طالبين منه أن يشهد بأنّ فلان هو الله. هذا المشهد تم تصويره في قرية أطمة الملاصقة للحدود التركية، ولدينا أسماء القائمين على تصويره ونشره، وكان ذلك بدافع كسب الرأي العام العربي والعالمي والإسلامي وجلب الدعم والتمويل، وكنت شخصياً حاضراً أثناء إعداد وإخراج القصة ولم أكن راضياً بذلك، ولكني نصحت ثم صمت. وقس على ذلك من آلاف الأخطاء والجرائم والمجازر والاختطاف والسلب والسرقات والفساد، وصولاً إلى ما يمكن اعتباره جرائم حرب باركتها المعارضة الرسمية التي ترتدي البدلات الرسمية وربطات العنق، وتعيش حياة الترف والبذخ وتأكل من دم الشعب السوري النازف من الطرفين.


أيها السادة، أنا لست عميلاً ولا خائناً ولست ضابط مخابرات مع أنني عملت لفترة وجيزة مع الاستخبارات التركية، وهناك عرفت أكثر مما ينبغي لي معرفته عن حجم وهول كارثة الكذب والدجل والخداع، ولي وقفة يوماً ما مع كيماوي خان شيخون وأسراره وتفاصيله.


أيها السوريون.. يا إخوة التراب، حرية التعبير والنقد وتصحيح الأخطاء وفضيلة التراجع عنها هي أسمى معاني الفكر الثوري الحقيقي. هل تريدون أن تنصركم السماء؟ الوصفة سهلة جداً، الصدق مع الذات ومع الآخرين ومع الله وترك الكذب والنفاق.


أخيراً، لي أن أسأل، كم هو عدد الموالين للنظام الحاكم الذين يعيشون في إدلب؟ كم هو عدد أبناء الأقليات السورية الذين يعيشون هناك؟ بالمقابل كم هو عدد المعارضين للنظام الذين يعيشون في مناطقه؟ كم هو عدد عائلات معارضي الخارج الذين يعيشون بأمان في مناطق حكم النظام؟ هل يمكنني أن أعارض جماعة إدلب وآمن على أخي ليعيش بين ظهرانيهم؟


ختاماً أٌقول: لا يمكنك خداع الله المطلع على كل شيء، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.. عشتم وعاش العقل الحر والنقد الذاتي. النقد الذاتي


ثائر عبود


ليفانت- ثائر عبود ليفانت

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!