الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • قطع مياه الشرب عن الحسكة كإحدى وسائل الحرب اللاإنسانيّة

قطع مياه الشرب عن الحسكة كإحدى وسائل الحرب اللاإنسانيّة
رياض علي

اتصلت مع أحد الأصدقاء من أهالي الحسكة والمقيم فيها حالياً، لسؤاله عن حاله وحال المحافظة بعد انقطاع المياه الصالحة للشرب لمدة تقارب العشرين يوماً، وهي ليست المرة الأولى التي تتعرّض فيها المحافظة لهذه المعاملة اللاإنسانية المهينة، وأثناء كلامه الممزوج بالقهر والدموع كانت كل صور الإذلال والظلم ترتسم في مخيلتي وهو يسرد معاناته كبقية الأهالي، في محاولات تأمين المياه الصالحة للشرب، خاصة مع تزامن هذه الكارثة مع حرارة الصيف التي يعرفها جيداً كل من سكن هذه المحافظة، وفي ظلّ حالة الفقر والعوز التي يعيشها الأهالي وغلاء أسعار المياه التي يجلبها الباعة الجوالون، وما كان يحزُّ في النفس هو أنّ من ينفذ التعليمات بوقف الضخ من محطة “علوك”، هم سوريون مثله ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا سلاحاً رخيصاً يأتمرون بأمر من يدفع لهم أكثر.  


هذه المحطة أُنشِئتْ عام 2010، وذلك بعد شح مياه الشرب في الحسكة وأريافها، بالقرب من قرية “علوك شرقي” التي تبعد عن مدينة سري كانيي/ رأس العين حوالي 10 كم، وتبلغ استطاعتها بالضخ حوالي 175 ألف متر مكعب من المياه الصالحة للشرب يومياً، وتشكل المصدر الرئيس للمياه لأكثر من ثمانمئة ألف شخص، من الأهالي ومن السكان الوافدين إلى المحافظة من باقي المحافظات والمناطق السورية، خاصة في ظل ظروف الحرب الدائرة في سوريا لما يقارب العقد من الزمن، والتي أرغمت أكثر من نصف الشعب السوري على النزوح واللجوء.


وبعد أن سيطرت الفصائل العسكرية المنضوية تحت مسمى “الجيش الوطني السوري” المدعوم من الحكومة التركية، على منطقتي سري كانيي/ رأس العين وتل أبيض والمسماة “نبع السلام” نسبةً إلى العملية العسكرية التي قامت بها تركيا والفصائل المذكورة، وذلك بتاريخ 19 تشرين الأول 2019، عمدت تلك الفصائل إلى قطع المياه عن محافظة الحسكة وضواحيها عدة مرات، وقد تجاوزت مدة القطع أحياناً الشهر، وكل مرة كانت الحكومة التركية توجّه تلك الفصائل بإعادة الضخ نتيجة المفاوضات التي كانت تتم بين الحكومتين التركية والروسية، ونتيجة للضغوط المعنوية التي تقوم بها المنظمات الحقوقية ووسائل الاعلام، ولم تكن تلك الفصائل سوى أداة رخيصة تنفذ الأوامر بالقطع أو الضخ. 


واتهام الحكومة التركية وفصائل “الجيش الوطني” لسلطات الأمر الواقع “البيدا” والنظام السوري، بأنّ قطع الكهرباء عن محطة مبروكة هي السبب في توقف الضخ من محطة مياه علوك، كون الأخيرة تعتمد على محطة كهرباء مبروكة للقيام بعملية الضخ، ليست سوى محاولة بائسة للتملّص من المسؤولية الأخلاقية والقانونية، التي يجب أن تتحملها الحكومة التركية في تلك المنطقة، كونها دولة احتلال بموجب القواعد والأعراف الدولية، ولا يمكن لعاقل أن يجادل في هذا التوصيف، وبالتالي عليها تنفيذ الواجبات التي تفرضها تلك القواعد والأعراف على سلطات الاحتلال، ولا سيما تلك الواردة في اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية السكان المدنيين لعام 1949، ومنها عدم الإضرار بالمرافق الحيوية والبنية التحتية للمناطق التي تحتلها، وعدم الإضرار بالسكان المدنيين داخل مناطق الاحتلال وخارجها.


وحتى على فرض صحة تلك الإدعاءات بقيام حزب الاتحاد الديمقراطي أو النظام السوري بقطع الكهرباء عن محطة كهرباء مبروكة، فإنّ هذا لا يرفع المسؤولية عن الحكومة التركية والفصائل السورية التابعة لها، كونها المسؤولة عن تشغيل وإدارة المرافق الحيوية التي تقع في مناطق سيطرتها ومنها محطة مياه علوك، حتى لو اضطرت لتزويد المحطة بالكهرباء من الأراضي التركية، وكما يقول المثل “من يعمل جمّالاً عليه أن يعلي باب داره”، ووفقاً لتقرير صدر عن منظمة “سوريون لأجل الحقيقة والعدالة” تبيّن عدم صحة تلك الإدعاءات، لأنّه من الممكن تغذية المحطة من منشأة توليد كهرباء السويدية في ريف مدينة المالكية/ ديريك، وذلك في حال انقطاع الكهرباء من محطة الدرباسية أو من سد “تشرين”، كما وتوجد مولدات احتياطية لتوليد الطاقة الكهربائية في المحطة، بدليل أنّه قد تم ضخ المياه من محطة علوك في الفترة الواقعة بين 13/11/2019 وحتى مطلع عام 2020، مع أنّ محطة كهرباء مبروكة لم تكن تزوّد محطة علوك بالكهرباء، وهذا يؤكد زيف الادعاءات والحجج التي تم سوقها بهذا الخصوص، كما أنّ منظمة “هيومن رايتس ووتش”، قد أصدرت تقريراً، أكدّت فيه أنّ محطة المياه تمتلك قدراً كافياً من الكهرباء فيها للتشغل، ونفت أنّ تكون محطة كهرباء مبروكة تشغّل محطة علوك للمياه.


لكن ما ذُكِر لا يعني أنّ الإدارة الذاتية معفاة من المسؤولية في كل ما يحدث بهذا الخصوص، لأنّها أعطت الحكومة التركية والفصائل المدعومة من قبلها حجة تستطيع المراوغة عليها لقطع المياه عن محافظة الحسكة، وذلك بقطع الكهرباء عن محطة كهرباء مبروكة، وكما ذكرنا سابقاً، إنّ حوادث القطع للمياه تعددت وبناء على ذات الحجة، وبالتالي كان من الممكن الاستفادة من التجارب السابقة وعدم إعطاء الحكومة التركية هكذا حجة مجدداً، لأنّ استخدام هذا السلاح من قبل الطرفين المتصارعين يضرّ بالأهالي والمدنيين، ولن ينتج عنه سوى دفعهم إلى الهجرة والنزوح أكثر، كما أنّه كان من المفترض على هذه الإدارة التي فرضت نفسها على الأهالي بقوة السلاح، تأمين أساسيات الحياة وعلى رأسها المياه، والبحث عن البدائل التي يمكن أن تكون حلاً، ولو جزئياً، لهذه المعضلة، كحفر الآبار الارتوازية، والاستفادة من نهر الخابور الذي يمرّ من بين أضلاع هذه المحافظة. 


ولا شك أنّ حرمان السكان والأهالي من المياه سيهدّد حياة الكثيرين منهم للخطر، ويعتبر الحق في الحياة من أهم حقوق الإنسان الأساسية التي نصّت عليها العهود والمواثيق الدولية، ولا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، كما أنّ هذا القطع المتكرر للمياه يعتبر مخالفاً للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما المادة 14 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، الملحق باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، التي حظرت مهاجمة أو تدمير أو نقل أو تعطيل الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، ومثالها المواد الغذائية والمناطق الزراعية التي تنتجها، والمحاصيل والماشية ومرافق مياه الشرب وشبكاتها وأشغال الري، كما ويعتبر مخالفاً للقانون الجنائي الدولي، فقد اعتبرت المادة الثامنة من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، أنّ الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف السارية على المنازعات المسلحة الدولية، جريمة حرب، وبموجب القاعدة 54 من قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي التي أعدّتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر “تحظر مهاجمة الأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين أو تدميرها أو نقلها أو تعطيلها”.


ونظراً لأنّ هذا الفعل يصنّف في خانة جرائم الحرب ويهدّد حياة مئات الآلاف من السكان المدنيين، ولا سيما في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها المنطقة، وخاصة مع انتشار جائحة كورونا التي تتطلب الكثير من الإجراءات الاحترازيّة للحدّ منها، ومنها ضرورة توفر المياه الكافية للغسيل والتعقيم، ولأغراض صحية أخرى، ولأنّ الحرمان من المياه سيكون مقدمة لحرمان الإنسان من الكثير من أساسيات الحياة، فلابد من تحرّك دولي لمخاطبة الحكومة التركية والضغط عليها لتحييد محطة علوك عن الخلافات السياسية والعسكرية، وتسليم إدارتها لفريق مدني مستقلّ، وذلك بإشراف ورقابة دولية، وكف يد القوات التركية من استخدامها كورقة مساومة وابتزاز ضد السكان المدنيين. 


ليفانت – رياض علي    

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!