-
لماذا لم تنجح الثورة السورية في سيرتها الأولى؟
يتردد صدى دعوة بعض المعارضين السوريين للعودة إلى سيرتها الأولى عل وعسى ينقذوا أنفسهم من المأزق الذي وصلوا إليه مؤخراً، ومتناسين الأخطاء الجذرية والتي قادت الجميع إلى هنا.
فيجب أن يعترف النقد الصادق فكرياً لسياسة أوباما تجاه سوريا في سيرتها الأولى للثورة بشرعية شكوكه وصحة الدروس التي استخلصها من تجارب العراق وأفغانستان وليبيا. في كثير من الأحيان، لم تكن التدخلات الأمريكية فعالة بالشكل المطلوب من مراكز الأبحاث التي اعتمدوا عليها. في كثير من الحالات تسببوا في نتائج عكسية غير التي توقعوها وكانت خيبة أمل للولايات المتحدة من تغيير النظام بشكل سيء أو عشوائي سريع. مما دفع الرئيس أوباما وطاقمه الرئاسي يتساءلون بتشاؤم: لماذا يجب أن تكون سوريا مختلفة؟
حيث وجدنا نحن العلمانيين أن الجهود المبذولة لنشر النظام الليبرالي العالمي تواجه معارضة محتملة من زعماء ومجموعات تُهددهم جهودنا تهديداً مباشراً. ولاغَرْوَ أن إيران وسوريا فعلتا ما بوسعهما للحد من جهود الولايات المتحدة في العراق على سبيل المثال، ذلك أن إدارة جورج بوش بينت أن هذه الأنظمة كانت ضمن قائمة الدول التي ستقوم بضربها أيضاً. وبالمثل فإنه من العسير أن نفهم لمَ آنَست الصين وروسيا خطراً من جهود الغرب في نشر القيم “الليبرالية”، أو لم اتخذتا خطىً شتى لاتقائها؟
لقد نسي الليبراليون كذلك أن المجتمعاتِ الليبراليةَ الناجحةَ لا تكتفي بمؤسسات ديمقراطية صُورية؛ بل تقوم على التزامٍ واسعٍ ومخلصٍ للقيم الأساسية في المجتمع الليبرالي، وعلى رأسها التسامح. وكما تَبيّن من أحداث العراق وأفعانستان وأماكن أُخر، فإن وضعَ دستورٍ، وتشكيلَ أحزاب سياسية، وإجراءَ انتخابات “حرة وعادلة” لن تُولد نظام ليبرالياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى إلا حين يتبنى الأفرادُ والجماعاتُ في المجتمع المعاييرَ الليبرالية الأساسية. ولا يمكن تطوير هذا الضرب من الالتزام الثقافي والمعياري بين عشية وضحاها أو فرضها من الخارج، بل ولا سبيل إلى ذلك لا بطائرات تجسس ولا قوات خاصة ولا غيرها من أدوات العنف.
وأيضاً فإن مما لا يحتاج إلى بيان أن ليبراليي ما بعد الحرب الباردة استهانوا بدور الوطنية وغيرها من صنوف الهوية المحلية، والطائفية والعرقية والروابط العشائرية ونحو ذلك. فيرون أن هذه العناصر المتخلفة ستضمحل يوماً بعد يوم، أو أنها لن تعدو أن تكون تعابيرَ ثقافيةً لا تَمُتّ إلى السياسة بصلة، وربما تُسيّر وتُرصد رصداً محكماً داخل مؤسسات ديمقراطية ذات إعداد جيد.
لكنِ اتضح أن كثيراً من الناس في أماكن شتى من عالمنا بالشرق الأوسط يصرفون اهتماماً إلى الهوية الوطنية، والعداء التاريخي، والشخصيات الإقليمية، والقيم الثقافية الشعبية أكثرَ منه إلى “الحرية”، كما يسميها الليبراليون. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن بعض أصحاب الأصوات (معظهم كبار السن) سرعان ما فُتِنوا بتلك المظاهر؛ وليس تفكيراً في الاعتبارات الاقتصادية الخالصة (ريثما يرون تبعاتها على الأقل).
وربما خُيّل إلينا أن قيم الحرية عندنا تحظى بقَبَول واسع، إلا أن قيماً أخرى قد تطغى عليها. وسوف تجيش عواطف شعبية كهذه لا سيما مع وجود تغير اجتماعي متسارع وغير متوقع، وكذلك حينَ تُضطر المجتمعات إلى أن تذوب وتذيب أناسًا -في زمن يسير- تختلف خلفياتهم كأن لم يكونوا أمة واحدة من قبل. إن في وسع الليبراليين أن يتحدثوا بكل ما يريدون من أهمية التسامح ومزايا تعدد الثقافات (وأنا أتفق معهم في ذلك)، لكن الحقيقة أن امتزاج الثقافات في دولة واحدة لم يكن أبداً أمراً هيناً أو ليناً. وما تمخض عن ذلك من توتر جعل الزعماء الشعبيين يضربون بسهم وافر، فهم مَنْ تعهّد بالدفاع عن القيم “المتوارثة” أو “إعادة عظمة الدولة ثانيةً”. فالحنين للماضي لم يُعُدْ كما كان أولَ مرة، وإن كان يصلح أن يكون أداة سياسيةً قوية.
وفوق ذلك كلّه فقد حَلّ بساحة المجتمعات الليبرالية هذه الأيام ما لا يسرهم، فهي محلّ اختطافٍ من قِبَلِ جماعاتٍ أو أفرادٍ، يستغلون الحريات ذاتها التي تقوم عليها تلك المجتمعات.
ما هي إذن بعض الدروس الأولية المستفادة من الصراع السوري؟
على المدى القصير، لم يفت الأوان على الرئيس القادم لإشراك الولايات المتحدة بشكل أكثر حزماً في الجهود المبذولة لتحريك الصراع السوري نحو انتقال تفاوضي، بشروط تزيد من احتمالية التوصل إلى تسوية دائمة لن تجبر السوريين على العودة إلى الديكتاتورية الوحشية لنظام الأسد، أو تعريضهم لعمليات افتراس وحشية مماثلة لتنظيم الدولة الإسلامية وباقي التنظيمات الجهادية.
على المدى الطويل، تتطلب الاستراتيجية الفعالة المرونة والاستعداد للتكيف مع تغير الظروف. من المهم الحصول على المقارنات التاريخية الصحيحة وعدم الإفراط في تعلم دروس الماضي. وكذلك الأمر هو حتمية الأخذ بعين الاعتبار والموازنة بشكل مناسب للآثار المضاعفة المحتملة للنزاعات الإقليمية على استقرار النظام الدولي. من الضروري وضع معايير لتحديد متى تكون المصالح الأمريكية معرضة للخطر بما يكفي لتبرير استخدام القوة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. يجب أن يكون تعزيز المؤسسات والآليات التي توسع نطاق الأدوات، الدبلوماسية والعسكرية على حد سواء، المتاحة للولايات المتحدة لإحباط الكوارث الإنسانية، مثل سوريا ومنع الحكومات من الانخراط في الإبادة الجماعية البطيئة أولوية قصوى لرئيس الولايات المتحدة الحالي أو المقبل.
وفي النهاية، أعتقد أن الولايات المتحدة عازمة على تنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة في بلدنا سوريا ولن تنسحب منها حتى تخلق من رحم الفوضى جيلاً واعياً جديداً قادراً على صنع التغيير الحقيقي والإصلاح للدولة والمجتمع.
وأنت هل تعتقد أن أميركا ستحسم هذا الصراع بفوز الثورة السورية الصحيحة منها؟ أم أن الثورة عندنا لا تتناسب مع معايير مفهوم الثورة لديهم وستطول؟
ليفانت - د. باسل الوادي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!