الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
مستقبل حقوق الإنسان في ظل أزمة كورونا
داليا زيادة

دخلت الحكومات على المستوى المحلي في كل دولة، بسبب الصدمات المتلاحقة التي يواجهها العالم من جراء أزمة فيروس كورونا، في مرحلة ترتيب أولويات، وبالطبع قضايا حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية هي من ضمن الأمور التي ستتعرض لإعادة ترتيب وربما أيضاً تعديلات على مفاهيمها وأهميتها في الحفاظ على استقرار النظام العالمي وأمن وسلامة الشعوب.


وقد نشطت الهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمجلس الأوروبي، في الأسابيع القليلة الماضية، في إصدار البيانات والتعليمات الإرشادية للحكومات بشأن احترام حقوق الإنسان وعدم الإخلال بها في أثناء التعامل مع الأزمات الكثيرة والكبيرة التي خلفها فيروس كورونا على المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل دولة، والتي ربما يستغرق الأمر سنوات لمعالجة آثارها. ونظراً للدور المتواضع لهذه الهيئات الدولية في تقديم إسهام مؤثر في حل أزمة الوباء العالمي أو التخفيف من آثاره، منذ بدء انتشار فيروس كورونا في ديسمبر الماضي، تلقت الشعوب حول العالم بيانات الأمم المتحدة بكثير من التجاهل.


وهو ما يجعلنا نتساءل، ليس فقط عن مصير حقوق الإنسان بعد أن يفيق العالم من أزمة كورونا وإلى أي مدى ستبقى الشعوب مؤمنة بأهمية إعلاء قيم حقوق الإنسان في مجتمعاتها وستستمر الحكومات في الحفاظ عليها والالتزام بها، ولكن السؤال الأهم أيضاً هو عن مصير هذه الهيئات الدولية التي تعيش في أبراجها الخاصة، بعيدة تماماً عن معاناة البشر اليومية، وعاجزة عن حل أزماتهم المباشرة، اللهم إلا ببعض بيانات المؤازرة أحياناً وبعض بيانات الشجب والإدانة في أحيان أخرى، بينما يقتصر غالب عملها على الانشغال بالترويج لمبادئ حقوق الإنسان، التي أثبت الوقت والتجارب أنها لا تتعدى كونها قيم إنسانية سامية شديدة المثالية وشديدة الانفصال عن الواقع لدرجة أن العالم لم ينجح في إدراكها كاملة حتى الآن، برغم الميزانيات الضخمة التي ضخت وتضخ من أجل الترويج لها، منذ تأسست الأمم المتحدة قبل أكثر من نصف قرن.


ليس المقصود هنا التقليل من أهمية وأثر قيم حقوق الإنسان والشرائع الدولية المرتبطة بها، في الحفاظ على تماسك واستمرار النظام العالمي، ولم أقصد حتى التقليل من أهمية النظام العالمي في حد ذاته، حيث أن مبادئ حقوق الإنسان المتفق عليها دولياً، هي التي حمت البشرية لعقود طويلة، من العودة إلى حقبة الحروب العالمية والتي كان فيها عالمنا أشبه بالغابة، ولكن المقصود هو ضرورة مراجعة أولويات الخطاب الحقوقي في المجتمع الدولي ليكون أكثر ملائمة للواقع وأكثر توازناً، وكذلك ضرورة النظر في أهمية وتأثير ودور الهيئات الدولية المنوط بها نشر قيم حقوق الإنسان في العالم ومراقبة التزام الحكومات بها.


بمعنى إنه في العقدين الأخيرين تركز الخطاب الحقوقي في العالم كله على الحقوق المدنية والسياسية، نظراً للتقلبات السياسية الكبيرة التي رأيناها تحدث في كل أرجاء العالم من أول حقبة الربيع الأوروبي ومروراً بحقبة الربيع العربي ومؤخراً سلسلة الثورات التي وقعت في أمريكا اللاتينية، وكانت القضايا المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومنها الحق في الرعاية الصحية مثلاً وحماية الناس من الفقر، تأتي دائماً في المرتبة الثانية ولا تلقى نفس الاهتمام الإعلامي الواسع، وكان دائماً يتم التعامل معها كقضايا داخلية تخص كل دولة بشكل منفرد، ولا تشغل الرأي العام العالمي.


لكن بعد الصدمات الكبيرة التي أحدثتها كورونا في مجال الرعاية الصحية، والهزة المرعبة التي أحدثتها في الاقتصاد خصوصاً على مستوى قطاع الأعمال الخاص، يبدو أن العالم سينشغل بإصلاح هذه البنود قبل أن يعود للانشغال بالحقوق المدنية والسياسية مرة أخرى، ومن المتوقع أيضاً أن تتغير الطريقة التي سيعبر بها المواطنون عن أنفسهم في نطاق العمل السياسي، بحيث سيكون استخدام الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مقدم على استخدام الوسائل التقليدية مثل الاحتجاجات في الشارع أو التجمعات الحزبية أو الحركية بشكلها التقليدي. وربما تتراجع بعض الحكومات الأكثر التزاماً بمفاهيم الحرية الفردية والمجتمع المفتوح والسوق الحر عن ممارسة هذه القيم لضمان وإعطاء الأولوية لسلامة المجتمع والمصلحة العامة قبل حرية الفرد ومصلحته.


وهذا ما بدأنا نرى بوادره بالفعل، إما في إجراءات بدأت الحكومات بتطبيقها على المستوى المحلي، أو حتى في التغير الواضح والأكثر اتزاناً الذي بدأ يشكل الخطاب الحقوقي في المجتمع الدولي، فقد ذكرت مفوّضة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، في بيان ألقته أمام مجلس حقوق الإنسان، في جلسة إحاطة غير رسميّة بشأن وباء كوفيد-١٩، عقدت في شهر أبريل، إن "فيروس كورونا المستجد يشكل اختبارًا لكلّ من المجتمعات والحكومات والأفراد... وإن احترام كامل حقوق الإنسان، بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحقوق المدنية والسياسية، أساسي لنجاح خطط التصدّي التي تعتمدها الصحة العامة." وأضافت أن وباء فيروس كورونا العالمي، قد سلّط الضوء على مشكلة عدم المساواة المدمّرة في أغلب المجتمعات، بما في ذلك البلدان المتقدّمة، حيث "برزت فجأة مواضع الضعف في نظم الرعاية الصحية والمشاكل التي تعيق الوصول إليها، والصعوبات الأخرى على مستوى الحقوق العماليّة والحماية الاجتماعية، والمساكن والكرامة."


إن أزمة كورونا، حتى وإن كانت لن تغير كثيراً في شكل وتفاعلات العلاقات بين الدول داخل النظام العالمي، إلا أنها حتماً ستؤثر فيما تعودنا عليه بشأن العلاقات بين الحكومات والمواطنين ومساحة تدخل الدولة في تقرير حياة الأفراد، وبالتالي ستتأثر قيم حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية بكل ذلك، وعلينا توقع ذلك والاستعداد له بإعادة هيكلة وتنظيم الأروقة الداخلية في الهيئات الدولية المخول إليها مهمة نشر قيم ومبادئ حقوق الإنسان ومراقبة تطبيقها، من أجل الحفاظ على سلامة واستقرار النظام العالمي ككل.

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!