-
مصير الجولاني بعد ارتدائه طقماً إفرنجياً
ضابط تركي رفيع، يرسل لأبي محمد الجولاني بأنّ صحافياً أمريكياً، واسمه مارتن سميث، سيزور إمارته وسيلتقيه. لا يتأخر مجاهدنا بالرد، ويعطي موافقته فوراً، ودون أن يستشير مجلس شورته، فقد قيل يوماً أنّه شُكِلَ للمشاورة في أدقّ قضايا الحكم وتسيير شؤون الرعية. يطلب من مرافقيه شراء طقم فرنجي له، مع كرافيته. يتعجّبون لأوّل وهلة، وهم ينظرون نحوه، ويسأل أحدهم: هل ستهديه للصحافي، ونحن لا نعرف مقاسه. ينظر الجولاني لهم، ويقول: الطقم لي، فيصابون بالذهول، ولكنه يسارع للقول، إنّني بذلك اللباس أرسل رسالة للعالم يا أغبياء، فالآن هم يناورون لأتغيّر أكثر مما فعلت، وأنا أناورهم كي يقبلون بمشروعنا الجهادي، فقد انفصلت عن القاعدة وحاربت داعش وأَجهزتُ على حراس الدين، وهمّشت الجهاديين، الأجانب والعرب.
يعطي المجاهد الأول في إدلب، الأوامر بتهيئة الأجواء لاستقبال الصحفي، الذي سيظلّ في ضيافته عدّة أيامٍ، وهذا يعني أنّه سيتجوّل في بعض أنحاء الإمارة، ويقتضي ذلك تهذيب بعضاً من إمارته القروسطية لتكون حديثة. بكل الأحوال، فقد بادر إلى ذلك من قبل، وهناك من يعتقد أنّ هذا الرجل وحركته فتح الشام وتحالفه ضمن هيئة تحرير الشام، يؤهلون أنفسهم ليستمرّوا في حُكمِ مناطق واسعة من إدلب وأرياف حلب، وبموافقة روسيا وتركيا وربما أمريكا ذاتها. بهذا السياق، بعض المحللين يؤكدون أنّ التغييرات التي أجراها الجولاني تستهدف حذف اسم حركته من قوائم الإرهاب العالمي، وهذا ما لم يتحقق له بعد. حظّه السيء لهذا اللحظة، أنّ احتفاءه بالصحافي وارتداءه القطم الإفرنجي، لم يكن لهما تأثير كبير، حيث غردت وزارة الخارجية الأمريكية، وبعد مغادرة الصحفي جنة الجولاني، أنّ الجائزة المرصودة للقبض على الجولاني ما زالت قائمة، وبالتالي ما زال إرهابياً وحركته كذلك.
الحربُ كرٌّ وفرٌّ. الجولاني لم يعد يكرُّ، بل أصبحت استراتيجيته الفرار، ولا سيما من تاريخه الجهادي، ويوافق على كافة الاتفاقيات التي عقدتها روسيا وتركيا، وبدءاً من موافقته على خفض التصعيد وخياراً لأستانا وسوتشي، بل وترك مناطق واسعة في أكثر من مرة لتتقدّم قوّات النظام إليها، ودون أيّة مواجهات تذكر، وبالتالي يسعى المجاهد جاهداً ليصبح مقبولاً، فهل تغيراته "الراديكالية" تتيح له المقبوليّة الإقليمية والعالمية؟
لا شك أنّ إقامة سلطة شموليّة تتطلّب الكثير من التعسّف، وهذا حال النظام وإدلب وشرق سوريا، وأيضاً المناطق المحكومة من أعوان تركيا. تركيا وأمريكا وروسيا وإيران لا يشغل بالها حياة الناس في تلك المناطق؛ النظام تُدافع عنه روسيا وإيران، وتركيا تدافع عن أعوانها وأمريكا كذلك، ولكن لا يمكن لدولة ما الدفاع عن الجولاني، جهاراً نهاراً، وإذا وضعنا بعين الاعتبار أنّ الشعب في إدلب بأغلبيته ليس راضياً عن فتح الشام، فإنّ مستقبله غير مضمونٍ. إذاً من الخطأ أن يتخيّل البعض أن الجولاني باقٍ ويتمدّد مستقبلاً، بل الأدق، إنّ ذلك الرجل وتنظيمه وكل تنظيم يشبهه سيشطب يوماً من الصراع السوري، وهذا بعكس بقية الأطراف السورية المذكورة أعلاه، وبالطبع ستجري تغييرات كبيرة في صلاحياتها وقوتها، وربما سيتم تفكيك أغلبيتها بما فيها بعض أجهزة النظام ذاته، وبعض تشكيلات جيشه.
الصحيح بما يخصّ الجولاني، أنّ هناك تواطؤاً قاد إلى بقائه، والتواطىء يشمل كافة الدول المتدخلة بسوريا ولها جيوشاً فيها، حيث قاد أكبر عملية تفشيل للفصائل الثورية ومنذ 2011، من جنوب سوريا إلى غوطة دمشق، ومروراً بمحافظات وسط سوريا إلى شرقها وشمالها، وفي إدلب، قضى على كافة الفصائل غير الجهادية والسلفيّة، وأودع في معتقلاته وسجون خيرة النشطاء المدنيين، وكذلك أفراد الفصائل المسلحة، وبالطبع بقية الفصائل الجهادية غير المنضوية تحت إمرته. ما فعله مَكّنَ روسيا وتركيا وإيران من تطبيق اتفاقاتها، والالتزام بها بشكل كامل. الجولاني وحركته وخاصته، "يلعبون" سياسة، تحت المظلّة التركية أولاً، حيث إمارته، لها رئة واحد هي تركيا، وبالطبع هناك شبكات للتواصل مع إيران وأمريكا والنظام كذلك، ولكنها معقدة وسرية، ويصعب اكتشافها في وقت قريب.
موضوع آخر في سيرة الجولاني والجهادية، أنّ السلطات التي شكلتها هنا وهناك، كانت نتيجتها رفضاً شعبياً لأي شكل من أشكال الحكم الإسلامي. في سوريا لم يرَ الناس سيرةً حسنة لفصيلٍ جهادي أو إسلامي، فماذا فعل جيش الإسلام في الغوطة مثلاً وسواه! وهذا حال الإخوان المسلمين، الذين لعبوا أسوأ الأدوار في مؤسسات المعارضة وفي آليات توزيع الإغاثة أو التمويل أو التسليح. هذا يعني أنّ الأرض السورية، التي لم تكن سعيدة بالمشاريع الطائفيّة وكانت معارضة لها، أصبحت تحتاج إلى مشاريع وطنيّة، تطوي بالكامل المشاريع الشمولية والطائفية، وأيّاً كان وجهها الذي تتقدّم فيه للناس، ولكن هذه الوجوه لن تغادر صراعاتنا دون نضالات قاسية ومتعددة الأشكال، ونستثني منها العسكرية، نظراً للإخفاق الشديد فيها، ونظراً لأنّ تطورات الوضع السوري تجاوزتها، وهناك نتائجها الكارثيّة.
الآن، لا يفعل الجولاني شيئاً إلا تدعيم حركته وتشكيل مؤسسات تابعة له، أو مؤسسات ترضى أن تكون واجهة له، وفي حال الضرورة، فإنّ أيّة تشكيلات مسلحة أو مدنية ستتواجد في إمارته ستكون هامشيّة وضعيفة وتحت سيطرة قواته وسلطته. شهدنا وعكس رغبات "المستقطم الجديد" رفضاً شعبياً له في إدلب، ومظاهرات تتكرّر تباعاً، وفي مناسبات مختلفة. هناك تراكمات ضده في الوسط السلفي والجهادي، وعدا كل هؤلاء، فما يزال الرجل على قائمة الإرهاب، وحتى لو أزالته أمريكا من قوائمها، فإنّ دولاً وأجهزة إقليمية متعددة ستتخلص منه، فهو يمتلك الكثير من الأسرار عنها.
الجولاني الذي انتقل من السريّة إلى العلنيّة ومن الجهادية إلى السلفية، ينوس بين الوهم بإمكانية قبوله عالمياً، والحقيقة التي تقول إنّ رصاصة ستقتله حينما تتغيّر اتجاهات الرياح، وتقترب التسوية السورية؛ فهو لا يمكنه العودة للخلف، كجهاديٍّ خالص، وأمّا المراوحة في المكان فتتطلب ما ذكرنا. وبالتالي لا شيء يفعله الجولاني في إماراته إلا تزجية الوقت وتغيير ملابسه وكأنّه ينتقل بين الماضي التليد وحاضره المأزوم وريثما تحلّ قيامته؛ وهذه لها اعتباران: إمّا أن يُنقل إلى الخارج، أو يُرسَل إلى الرفيق الأعلى، وأنا أُغلب قتله؛ للحقّ أقول: لقد اجتهد الرجل كثيراً، ولكن مستقبله لن يبقى ويتمدّد كثيراً.
ليفانت - عمار ديوب
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!