-
من الزمن الجميل.. الفنّ عندما يتواضع الكبار
منذ بدايات النهضة الفنية العربية، في أوائل القرن الماضي، واعتمادها على نقاء سريرة الروّاد الأوائل والقيم الأخلاقية التي كانوا يؤمنون بها ويمارسونها في حياتهم اليومية، أيام كانت فيها الأخلاق هي التي تحكم المجتمعات العربية. الزمن الجميل
كان التعامل بين الناس يقوم على الاحترام والأدب والتهذيب والرقي، الذي أنتج فنانين عظماء قدموا أعمالاً فنية بديعة خالدة، قبل أن تحوله عصور الديكتاتورية والاستبداد إلى تعامل مصلحي وضيع ترسخت فيه الخساسة والوضاعة وقلة الأدب في المجتمعات، حتى وصلنا إلى الحضيض الفني والأدبي الذي نعيشه اليوم والذي انعكس على تعامل الفنانين بين بعضهم البعض، وغالبية المجتمع، بالأنانية والوقاحة والمصلحية، لينتجوا لنا كل ما نراه اليوم على الساحة الفنية من غثاثة وإسفاف.
كان الفنانون الرواد يتمتعون بصفات إنسانية رائعة وتواضع جميل وقلوب طيبة رقيقة، فمدوا يد العون لأصحاب المواهب حتى تألقوا ودعموا الصغار حتى كبروا ووقفوا إلى جانب الضعفاء حتى استقووا، يدفعهم إلى ذلك الأخلاق الحميدة السائدة في المجتمع والأهداف السامية لخدمة الفن والاارتقاء بالذائقة الفنية للشعب، الذي كان بكافة طبقاته الاجتماعية والعلمية شغوفاً بالفنّ والآداب محتضناً للفنانين والأدباء وداعماً لهم.
ولذلك فلا نعجب عندما نعلم بأنّ أستاذاً ورائداً كبيراً بحجم الفنان المسرحي علي الكسار، يتنازل لتلميذ من تلامذته الصغار يستفزّ مواهبه ليجبره على التعلم والتقدّم ليصبح نجماً بحجم الفنان محمود المليجي، أو فناناً مبدعاً كالأستاذ يوسف وهبي، حصل على رتبة البكوية من الملك لخدمته للمسرح العربي، يتنازل لشاب صغير أرسل له رسالة استعطافاً ليقبله في فريقه الفني، فاستقبله ودعمه ورعاه حتى عرفنا فنانين بقيمة فريد شوقي وأنور وجدي.
كان لتواضع الكبار من قامات الفنّ والأدب والصحافة والإبداع أثر كبير في ظهور ودعم المواهب الفنية ثم تألقها وإبداعها عندما أتيحت لها الفرصة. ولا ننسى ما قدمه الكبار، من أمثال نجيب الريحاني وجورج أبيض وعزيز عيد، من دعم لشعراء ومغنين وممثلين أصبحوا نجوم ذاك العصر وكل عصر، بما قدموه للفنّ العربي الأصيل من زخم وعطاء.
وتحضرني هنا قصة أغنية، من أجمل وأروع وأبدع الأغنيات العربية، والتي ما يزال الجميع يترنمون بها ويسمعونها لرقة كلماتها وبديع لحنها وجمال صوت وأداء الفنان عبد العزيز محمود لها، حيث كان لتواضع الكبار ورقيّ تعاملهم مع أصحاب المواهب في الزمن الجميل سبب رئيسي في ظهورها.
فقد كان الشاعر الغنائي الكبير مأمون الشناوي يتأهب للخروج من بيته إلى موعد له في الإذاعة المصرية عندما وجد في جيب سترته ورقة غريبة فتحها وإذ بها تحمل كلمات شاعرية رقيقة بديعة تصلح لأن تكون من أجمل الاأغاني، فاستغرب، وهو الشاعر الذواق، وجود هذه الورقة في جيب سترته ونادى على الخادمة يسألها عن الورقة، فأقرّت بحياء بأنّها تعيش قصة حبّ مع المكوجي البسيط في الحي، وأنّ هناك خلافاً بينهما، فدسّ لها هذه الورقة في جيب سترة الشاعر الشناوي بعد أن انتهى من تنظيفها وكيّها عسى أن تجدها فتقرأها وتلين وتحنّ وتصالحه.
فابتسم الشاعر الكبير واتصل بصديقه الفنان الملحن المبدع محمود الشريف، وقرأ عليه كلمات القصيدة، فأبدى إعجابه بها وطلب منه أن يأتي لمنزله مع الشاعر صاحب الكلمات فوراً، فمرّ الشاعر الكبير على المكوجي وطلب منه أن يذهب معه في مشوار مهم، فذهب الرجل مطمئناً وهو لا يعلم ما الذي تخبئه له الأقدار. وفي منزل محمود الشريف سأله الشاعر عن هذه الكلمات، فاعترف الرجل معتذراً بأنّها له وأنّه دسّها في جيب سترته لأنّه أراد إيصالها لمحبوبته التي تعمل في منزله. فابتسم له الفنانان الكبيران بتواضع وسألاه: هل كتبت غيرها؟ فقال: نعم، لدي العديد من هذه القصائد، وأخذ يقرأ لهما بعض إبداعاته التي لم يظنّ يوماً أنّ مثل هاتين القامتين ستستمعان لها.
واتصل الملحن محمود الشريف بالمطرب المشهور، آنذاك، عبد الغني السيد، ودعاه إلى منزله، وأخذ يدندن على العود ملحناً تلك الكلمات الرقيقة الأنيقة الراقية، وبعد استماع المطرب عبد الغني السيد لها باللحن المبدئي لمحمود الشريف أعجب بها جداً، وبعد أيام قليلة كان يشدو بها بصوته الفخم على الإذاعة المصرية لتصبح الأغنية الضاربة في وقتها، بعد تقبّل وتأثر الجمهور العربي وإعجابه بها.
وكان لتواضع شاعر غنائي كبير بحجم مأمون الشناوي وملحن مبدع بقامة محمود الشريف وصوت مطرب مشهور بعذوبة صوت عبد الغني السيد، سبب رئيسي في ظهور إحدى أروع الأغاني العربية "عَ الحلوة والمرّة مش كنا متفقين.. ليه تنسى بالمرّة عشرة بقالها سنين".
وتألّق شاعر غنائي بوزن الشاعر سيد مرسي، المكوجي، والذي أثرى الفن العربي بأبدع وأروع الأغاني لنجوم الغناء العربي، مثل وردة الجزائرية، بعد أن شكّل ثنائياً بديعاً مع الملحن بليغ حمدي، والتي شدت من كلماته أبدع أغانيها "اشتروني، ليالينا، يا أولاد الحلال، وحشتوني، خليك هنا خليك، اسمعوني، احضنوا الأيام، وهي جميعاً من ألحان الموسيقار بليغ حمدى، وكذلك شادية وفايزة أحمد وعفاف راضي ونجاة الصغيرة ومحرم فؤاد.
ليصبح المكوجي، الرجل الموهوب البسيط، رمزاً من رموز شعراء الأغنية العربية، بسبب قيم وأخلاق وتواضع أعلام الزمن الجميل. الزمن الجميل
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!