الوضع المظلم
الجمعة ٢٠ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
من انتصر في سوريا؟!
ريما فليحان

مع كل تغيير بخارطة المعارك وإعادة لرسم مناطق النفوذ في سوريا، يُعلن الانتصار بوقاحة لا مثيل لها، وأقول إعادة توزيع لمناطق النفوذ لأن الجغرافية السورية بكاملها ليس فيها مناطق محررة، لا المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام ولا المناطق الواقعة تحت سيطرة أي فصيل مسلح بغض النظر عن تبعيته وعلمه الذي يرفعه وأيدولوجيته التي يتبناها. لقد انتهت مرحلة السذاجة السياسية عند الكثير من السوريين بعد أن أصبحت للحرب في سوريا صورة واضحة المعالم، وهي عبارة عن اقتتال وتنازع يجري على الأرض السورية ويدار بإرادات دولية ونزاعات إقليمية ومصالح ذاتية ضيقة، يدفع فيها المدنيون الأبرياء الأثمان الباهظة من دمهم واستقراراهم ومصير أبنائهم. انتهت تلك المرحلة التي كان يمكن فيها للطرفين أن يقولا بثقة أو "بصدق على الأقل" عن المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام "مناطق محررة" أو المناطق الخارجة عن سيطرة النظام "مناطق محررة"، بغض النظر عن الجهات التي تسيطر على تلك المناطق، لأن فكرة التحرير الحقيقية تلك تسقط على فوهات البنادق والانتهاكات بحقوق المدنيين والتي وقعت في كل شبر في سوريا، سقطت حين كان النظام يدك بيوت المدنيين ويستهدف المشافي والأسواق في المناطق التي تظاهرت ضده ويقتلهم يكل أنواع الأسلحة ويعتقل ويعذّب النشطاء ويصفي ويلاحق الأبرياء في مناطقه أو حين يعيد السيطرة على مناطق كانت خارجة عن نفوذه لينتقم من الأهالي وكل من كان له موقفاُ معارضاً له.


سقطت فكرة التحرير أيضاً حين استهدفت الفصائل المدنيين بالهاون في المناطق الأخرى، وحين وضع المدنيون في أقفاص وحين اعتقل وعذّب الناس في مناطقهم بسجون تشابه سجون النظام، وحين خطفوا النشطاء وغيبوهم في سراديب مظلمة، وحين تحكموا برقاب الناس وظلموهم وهم يفترض في مناطق "محررة"، والحقيقة أن المدنيون في سوريا كانوا ومازالوا طوال السنوات الماضية للحرب رهائن ينشدون النجاة فقط بأي وسيلة ممكنة مع كل تغيير وإعادة رسم لمناطق النفوذ عسكرياً على الخارطة السورية.


اذاً لا تحرير في سوريا، في سوريا فقط مقتلة يقوم بها من جهة نظام فاشي ضمن سلسلة من جرائم الحرب التي تقتلع المدنيين من بيوتهم وتقتلهم حتى في المخيمات بل وتنتهك القبور والجثث وتسرق بيوت الهاربين أو الموتى وتقتل النساء والأطفال وهم يحاولون الفرار، وفصائل متطرفة مرتزقة من جهة أخرى تبيع تلك المناطق وتتحرك كالدمى بأوامر تأتي من الخارج، من يلقب نفسه بالمنتصر اليوم هو مجرم حرب استجلب كل أنواع التدخلات إلى سوريا، فباتت سوريا محتلة من الروس والإيرانيين بشكل كامل بينما باتت الفصائل في الشمال مرتهنة للأتراك بالكامل، بينما بقية المناطق في سوريا موزعة كنفوذ بين ميلشيات وأخرى بأجندات مختلفة أو قواعد عسكرية تابعه لعشرات الأقطاب والدول، وبين مناطق تأكلها الفوضى وتسيطر عليها عصابات الخطف والسرقة ويختنق قاطنوها بالضغوط الاقتصادية وعدم القدرة على تأمين أبسط الحاجات الأساسية لاستمرار الحياة، إذاً كيف يجرؤ أياً كان على التغني بانتصارات بينما نصف الشعب السوري لاجئ ونازح والنصف الآخر يعيش بضغط اقتصادي وأمني لم يسبق له مثيل؟


من انتصر في سوريا إذاً؟ انتصرت في سوريا الحرب على السياسية، والطائفية والمناطقية والتعصب على المواطنة والإنسانية، انتصرت في سوريا كل دول العالم بينما خسر السوريون وحدهم، انتصر تجار الحروب والأزمات وخسر المدنيون، انتصرت قارورة الغاز ومن يتحكم بقوت الشعب على دفء الوطن، والموت على حب الحياة، وصلافة السياسة الدولية على الضمير العالمي، انتصرت الرصاصة على زجاجة الحليب، وانتصرت الوحشية على الإنسانية، انتصرت المصالح الدولية على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، والأيدولوجيات الضيقة على الحراك الشعبي الجامع، وانتصرت عصابات تهريب البشر على حق الهاربين من الموت بإعادة التوطين، نعم هؤلاء هم المنتصرون في سوريا ونحن جميعاً كل السوريين الحقيقين خاسرون حتى نقي العظام في هذه المرحلة.


ولكن وأكاد أجزم أن المشهد الحالي ليس هو المآل النهائي لسوريا، والحقيقة وعلى الرغم من أن من ينتمي لهؤلاء المنتصرين لا يرغب حقيقة بانتهاء المعارك ولا نهاية الحرب لأن نهاية الحرب تفشل مشاريعهم ولا تلاقي مصالحهم وتفشل رغبة التغيير، فالمرحلة الحالية بقسوتها هي مرحلة عبور لا بد ستنتهي حتماً حين سيبدأ التغيير، والتغيير يعني نهاية مصالح كل هؤلاء المنتصرين الآنيين. فالتاريخ يقول أن الرصاصة لا يمكن ان تقتل فكرة، والفكرة لا يمكن أن تموت طالما هناك سوري واحد يحب سوريا وطناً جامعاً عادلاً حراً لكل السوريين ويريد أن ينتقل بوطنه إلى مرحلة جديدة تحقق استقراراً وتغييراً سياسياً تزدهر فيه الحريات وحقوق الإنسان ويعيش فيه الناس بكرامتهم ويحاسب فيه مجرمو الحرب، المشهد لن يكتمل قبل أن يحصل التغيير الديموقراطي المنشود في سوريا عبر حل سياسي نهائي يجلب السلام إلى سوريا، والسلام الحقيقي يعني انتصار المدنية على السلاح، والديموقراطية على الاستبداد السياسي والديني، والمدنية على العسكر، وبانفتاح نحو العالم يبنى على المصلحة الوطنية لا على التبعية والذل وليس من خلال منطق الحفاظ على الحكم، حينها فقط قد يمسح السوريين الدماء والدموع عن وجوهم وينفضوا غبار الأنقاض والمخيمات ويحتفلوا بالانتصار.


ريما فليحان - كاتبة سورية

العلامات

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!