الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
مهرجان غلاويز الثقافي المحلي بنكهة عالمية 
مهرجان غلاويز الثقافي المحلي بنكهة عالمية 

حين تلقيت دعوة مهرجان غلاويز الثقافي في السليمانية، شعرت بسعادة استثنائية. لطالما راودني هذا الإحساس، أن ثمة شيئاً ما "كنزاً، وصية، سرّاً" يخصني وينتظرني لأعثر عليه هناك، في كردستان، كما لو أن وجودي لن يكتمل إلاّ بالعثور على ما ينقصني ويُخبئه القدر لي، ولن أتحقق إلا بلقائه.

كالأطفال الذين يحلمون بهدية العيد، لم أكن قادرة على ضبط انفعالاتي، وجملة تتكرر في داخلي: أخيراً سأرى كردستان.

السليمانية.. نقطة البدء

لم تكن صدفة، أنني وصلت إلى الفندق، مصحوبة من مطار السليمانية، مع كاتبتين فرنسيتين، جمعتنا اللغة الفرنسية معاً، نحن الكاتبات الثلاث، إذ ننتمي ثلاثتنا، إلى هويات أخرى، متعددة.

ساندرين الفرنسية من أصل جزائري، لأم فرنسية وأب جزائري، تحمل جينات التعدد مثلي، وفتيحة الفرنسية ذات الأصل الجزائري، وأنا الفرنسية ذات الأصل الكردي السوري العربي.

وصلنا معاً نحن الثلاثة قادمات من باريس، وكان الشاعر الكردي، طلعت طاهر، بانتظارنا في المطار، ليصحبنا إلى الفندق، ومن هنا، من تلك اللحظة، بدأت إشكالية الهوية: بأية لغة نتحدث؟

ساندرين تتحدث الفرنسية والكردية بلجهتها السورانية، وفتيحة تتحدث الفرنسية والعربية، بينما يتحدث طلعت الكردية السورانية والعربية، وأنا أتحدث الفرنسية والعربية والكردية الكرمانجية، المختلفة عن كردية أهل العراق.

كان لا بد أن يشعر أحدنا بالغربة.. إذ لم نعثر على لغة واحدة نتحدث بها نحن الأربعة.. وجدتني أنوس بين العربية، متحدثة إلى طلعت وفتيحة، والفرنسية وأنا أتحدث إلى ساندرين وفتيحة.

لكن الطريق من المطار، لن يطول كثيراً، وسوف نجد في اليوم التالي، اللغة التي نستطيع التعبير بها.

وهذا ما حصل لي في اليوم التالي، حين استيقظت من النوم باكراً، تغمرني كلمة واحدة تشبه الخيال، وأراها مدونة قبالتي: كردستان.

وأنا أنظر من نافذة الغرفة، إلى الجبل الكبير قبالتي، أتمتع بكلمة كردستان مكتوبة على الجبل، وإلى جوارها العلم الكردي. 

وهذه هي الشمس الآن.. شمس كردستان!

أجل، إنها الشمس! هذه اللفظة التي تحيلني دائماً إلى منبع الكتابة لدي. إذ إن مزاجي السردي يتقلب وفق ظهور الشمس وغيابها، كأن وجودي متعلق بهذه الأشعة، التي يربك غيابها، وجودي وهويتي.

إذا سُئلت عن الهوية العميقة في داخلي، لقلت إنها الشمس، هي أمي البعيدة، القوية، المُلهمة.

مع نيجار، الطالبة التي تحضر بحثها الجامعي عن رواياتي، وهيلين قريبتها الحسناء، غادرنا الفندق نسير تحت ضوء الشمس المبهر والمنعش، متجهات نحن البنات الثلاث، صوب مقر فعاليات المهرجان، الذي يقع في منطقة مختلفة، قريبة لمركز المدينة والأسواق التي نحلم بزيارتها، نحن المقيمين في البلاد الباردة.

مهرجان غلاويز

أعتقد أن خبرتي ليست قليلة في حضور الفعاليات الثقافية في العالمين العربي والغربي، لهذا فإنني أستطيع تلمّس نقاط الاختلاف بين غلاويز وغيره.

حرصت إدارة المهرجان، بطريقة أقرب إلى الطريقة الأوربية، في حصر الفعاليات جميعها في مكان واحد، وفي قاعة واحدة. الأمر الذي لا يجعل الحضور يتشتتون بين القاعات.

إذ اعتادت المهرجانات التي شاركت فيها عادة، ومعارض الكتب وغيرها من الفعاليات، على زجّ جدول مزدحم، تتوزع نشاطاته في عدة قاعات، وغالباً تحدث عدة فعاليات في وقت واحد، فلا يستطيع الحضور متابعة كل الفعاليات التي يرغبون بمتابعتها، بل يضطرون إلى الاختيار، والتضحية بندوة أو نشاط مقابل غيره، فنجد قاعة ممتلئة بالحضور، بينما في قاعة أخرى، قد لا نعثر على أكثر من خمسة أو عشرة أشخاص.

من هنا، فقد تميز مهرجان غلاويز بحضوره الكثيف والمتعادل، أي أن كثافة الحضور كانت سِمة جميع الفعاليات تقريباً.

من مزايا غلاويز الأخرى، والذي كان يحتفل بيوبيله الفضي، هي تعددية الضيوف، وتعددية اللغات. إذ جاء ضيوف من العراق ذاته، من كرده وعربه، ومن البلاد المجاورة، من سوريا وإيران، وذلك من بلاد عربية كمصر، ومن أوربا.. وكانت الترجمة الفورية متاحة بتلك اللغات، لمن لا يجيد لغة المحاضرة أو الندوة او الفعالية.

توزع الشباب والصبايا المعنيون بتنظيم حركة الحضور وتلبية احتياجاتهم في جميع أركان القاعة، يوزعون المنشورات، الجرائد التي تغطي أخبار المهرجان وفعالياته، أجهزة الترجمة، بل وحتى مساعدتهم على العثور على أماكن فارغة للجلوس.

بين المحلية والعالمية

لا يتسع لي المجال هنا، للحديث عن حجم الثراء النفسي والمعرفي الذي تحصّلت عليه خلال ثلاثة أيام فقط، فترة وجودي في السليمانية، وانبهاري بقدرة هذا الشعب على العيش بحرية وتلقائية، وميزة الاسترخاء التي يحياها هذا الشعب، بطريقة يحلم بها الغربيون.

في شارع "صه هو له كه" مثلاً، تسير الحياة بتدفق وتلقائية وأمان. لم أسمع صوتاً عالياً رغم الضجيج، لم أحضر شجاراً.. كأن الناس جميعهم عائلة واحدة، خرجوا في نزهة جماعية.

تستطيع النساء السير وحدهن، دون قلق التحرش أو النظرات المزعجة، فالشعب الكردي محافظ وصارم في التعامل مع المرأة بأخلاقية عالية.

عدت كأنني أفقت من حلم عابر، ما إن وصلت إلى مطار شارل ديغول، حتى قلت لنفسي مؤنبة: ماذا تفعلين هنا؟

عدت وأنا هناك.. وأنا أحلم بترميم عالمي المجروح، الذي لن تلتئم جراحه، إلا هناك.. في كردستان، حيث السرّ الذي يناديني، كأن حياتي الحقيقية عالقة هناك.

سألني أصدقائي الفرنسيون: ما هي ميزات زيارتك الأولى لكردستان؟

محاولة التكثيف:

اللغة: أن تسمع الناس جميعهم يتحدثون باللغة الكردية التي كانت حتى سنوات بعيدة، محظورة وكنا محرومين منها.  

العلم الكردي: رغم انتمائي للعالم، واعتبار نفسي مواطنة عالمية، فرنسية وعربية وكردية، لكن رؤية العلم الكردي، الذي حُرمت الاقتراب منه في طفولتي وصباي في سوريا، تُنعش قلبي في كردستان، وأشعر بالعدالة تتحقق، وأنا مفتونة بالعدالة.

الطعام، الشمس، الأسواق، الناس، الموسيقا السورانية المميزة عن الكرمانجية، والتي جعلتني أشعر أنني أحتاج إلى زمن فائض وجديد، لتعلم هذه اللهجة الساحرة، التي، أي السورانية، كلما سمعتها، شعرت أنني أسمع شعر أحمد الجزيري، رغم أنه كان يكتب بالكرمانجية..

يبدو أن السورانية هي لغة الفكر والمعرفة والأدب.

أخيراً، يستحق مهرجان غلاويز أن يُستنسخ. أن يكون لدينا مهرجاناً موازياً ومشابهاً في بقية المدن الكردستانية، لأن فعلاً هذا المهرجان، رغم محليته الشديدة، وخصوصيته الكردية، لكنه يحمل نكهة العالمية، وهذا ما يجب أن يتحقق للأدب الكردي والثقافة الكردية: الذهاب بهما صوب العالمية.

 

ليفانت - مها حسن  

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!