الوضع المظلم
الثلاثاء ٠٥ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • مُعتقلاتُ الأسد في ذاكرة الناجين.. شهادة “فراس فياض”

مُعتقلاتُ الأسد في ذاكرة الناجين.. شهادة “فراس فياض”
5050

 لونا وطفة – ألمانيا 


 




لم تكن الجلسات التي حدثت مؤخراً ضمن محاكمة المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب اعتيادية، فقط صدحت اللغة العربية لأول مرة في قاعة المحكمة، حيث وقبل الجلسة العاشرة كان كل الشهود ألمان والترجمة للعربية حصرية فقط للمتهمين من خلال سماعات رأس ومترجمين فوريين لهما. وبرغم مفارقة أن المحاكمة لسوريَين على جرائم ارتكبت على الأراضي السورية ضد سوريِين آخرين إلا أن وجودها في ألمانيا جعلها ناطقة بطبيعة الحال باللغة الألمانية




 


مع استدعاء أول مُدعي في قضية أنور رسلان بدأت اللغة العربية تسرد الكثير من آلام المعتقل وأساليب التعذيب، وحاولت اللغة الألمانية من خلال المترجمين الفوريين نقلها كما هي لباقي أعضاء المحكمة، الأمر الذي لم توفق به أحياناً للأسف. مُعتقلاتُ الأسد


ففي اليومين الثالث والرابع من الشهر الحالي تم استدعاء أول مُدعي في محاكمة المتهمين أنور رسلان وإياد الغريب وهو صانع الأفلام السوري فراس فياض الذي بدأ أولاً بالتعريف عن نفسه وعائلته.


ذكر فراس، 35 عاماً وينحدر من قرية بجانب سراقب في محافظة إدلب، أنه وفي ثمانينيات القرن الماضي اعتقل النظام ثلاثةً من أخواله وقتل خالاً آخر، ولأن والده كان مهتماً بالشأن السياسي كثيراً ويكتب أبحاثاً في ذلك الوقت عنه في سوريا، ونتيجة لما حدث مع أخوال فياض، قرر والده حرق كل ماقام بكتابته بغية حماية عائلته وأطفاله، حتى أنه أحرق مخزونه من الكتب التي قد يسبب اقتنائها مشاكل أمنية، الأمر الذي فعله في فناء منزلهم. بعد ذلك توجه الأب لتدريس اللغة العربية والبحث عن حياة آمنة بعيداً عن السياسة، لكن مافعله بأبحاثه أدخله باكتئاب حاد جعل تربية فياض وإخوته تقع بشكل كامل على والدته وإخوته الإناث الأكبر سناً. ومن هنا بدأت قصة فياض مع النظام السوري.


درس فراس عدة مجالات أدبية لعدة سنوات قبل أن يستقر أخيراً على دراسة صناعة الأفلام حيث سافر إلى لبنان ومن ثم إلى فرنسا ليدرسها بمدرسة خاصة وبقي هناك ثلاث سنوات، وعاد إلى سوريا عام 2005.


مع بداية الثورة بدأ فراس بتصوير المظاهرات وتدريب شباب آخرين على التوثيق الصحيح وطرقه، من خلال المواد التي قاموا بتصويرها كان هناك لقطات واضحة لعمليات إطلاق الرصاص المباشر على المتظاهرين والضرب بالهراوات وإطلاق القنابل المسيلة للدموع.


كل هذه المواد تمت مصادرتها من الأمن حين تم اعتقاله بمقهى للإنترنت في شهر نيسان 2011، حيث قامت المخابرات الجوية بحرستا باعتقاله وتحدث عن تعذيبه حينها لدرجة أنه بقي أياماً غير قادر على الحركة أو التنفس بشكل طبيعي. مُعتقلاتُ الأسد



فراس فياض


أما عن اعتقاله الثاني فقد حاول فراس الفرار من سوريا بعد أن وصلته معلومات بأنه ملاحق أمنياً بسبب المواد التي قام بتصويرها أيضاً بعد خروجه من المعتقل، ولكن تم اعتقاله مرة أخرى ولكن هذه المرة من قِبل أمن الدولة وتمت مصادرة كل مواده المصورة في مطار دمشق في شهر آب عام 2011 وقضى الشهر الثامن والتاسع في فرع الخطيب.


تحدث فراس عن تعذيبهم له بالضرب المبرح أثناء نقله وحفلات استقبال المعتقلين بالأفرع الأمنية “وهي استقبال يقوم فيه العناصر بضرب المعتقلين ضرباً شديداً بالأيدي والأرجل والعصي” وتحدث عن الزنزانة الجماعية في فرع الخطيب -التي مكث فيها قرابة الثلاثة أيام قبل أول تحقيق معه والذي على أثره تم نقله إلى منفردة حتى نهاية فترة وجوده في فرع الخطيب- واصفاً الأعداد الهائلة للمعتقلين حينها والتي قدرها بـ 300 معتقل بمساحة تقديرية للزنزانة عبارة عن 30 متر مربع، وعن رؤيته لطفل لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره مُدمَّى القدمين من كثرة التعذيب وكيف قام بقية المعتقلين بمساعدته، وعمَّا رآه من تعذيب لباقي المعتقلين في المهجع الجماعي. مُعتقلاتُ الأسد


وعن طريقة رؤيته لوجه محققه الذي تبين له لاحقاً أنه المتهم أنور رسلان قال فراس: “لقد كنت معصوب العينين، لكن العصابة كانت رديئة ولم يهتم حينها العساكر إن كنت استطيع الرؤية أم لا” وحين تم إحضاره للمحقق أُمر أن يجلس على الأرض جاثياً على ركبتيه حيث استطاع فياض رفع رأسه عدة مرات ورؤية بعض ملامح من وجه المحقق قبل أن يرغمه المحقق على إنزال رأسه بالقوة. ما لم يستطع فياض نسيانه هو قول المحقق له أثناء هذا التحقيق: “عندي كامل الصلاحية بفعل ما أريده بك لانتزاع المعلومات منك”. (الأمر الذي ينفي ما أورده رسلان في دفاعه من أنه كان محدود الصلاحية حينها وكان منصبه رمزياً لا أكثر)، التحقيقات والجُمل التي قالها المحقق جعلت صوته محفوراً في رأس فياض أكثر حتى من ملامحه.


وخلال جلسة المحاكمة في مدينة كوبلنز الألمانية أدلى فراس بالكثير من المعلومات عن التحقيقات التي أجريت معه في فرع الخطيب وطبيعة الأسئلة التي وجهت له من رسلان والذي كان أحدها مثلاً “هل تحب الرئيس؟” حيث يقول فراس: “لم استطع الجواب على هذا السؤال لأنني لو قلت لا سيعذبونني أكثر، ولو قلت نعم سيعرفون أنني كاذب لأنهم رأوا كل المواد التي صورتها”. ولأن فراس قال في تحقيقه أنه كان متأكداً بنسبة 70% من أن الصورة التي رآها لرسلان هي ذات الصورة للمحقق في فرع الخطيب فقط طلب فراس أن يسمع صوته ليؤكد تماماً أنه هو، الأمر الذي رفضه محامي الدفاع في قاعة المحكمة.



لم يكن فقط التعذيب الوحشي بكل أنواعه الذي تعرض له فراس هو ما تحدث عنه، فقد تحدث أيضاً عن الأصوات الناتجة عن التعذيب وصرخات الاستجداء التي سمعها، وعن تعذيبه بطريقة الشبح في فرع الخطيب وعن المنفردة “التي يُنادى على المعتقل فيها كرقم بدلاً من اسمه كلما تم استدعائه إلى التحقيق” واضطراره للإنثناء على نفسه كالجنين ليستطيع الجلوس والنوم لأن المنفردة بحسب تقديره بلغت 80 سم طولاً ومثلها عرضاً، وعن تخيير معتقلي المنفردات حين خروجهم إلى الحمام “التواليت” إما بالشرب أو بقضاء الحاجة أو بقضاء الحاجة أو الاستحمام السريع لأن الوقت المتاح لهم لا يتسع لأمرين معاً حيث كان العساكر يبدأون العد من الواحد حتى يصلوا للرقم الخمسة وحينها يجب أن يكون المعتقل قد خرج من الحمام، أو يتم ضربهم وإخراجهم بالقوة.


وصف فراس ذلك بقوله: “عندما تذهب إلى الحمام “التواليت” يجب أن تقرر سريعاً إما أن تستحم أو تشرب، وبالطبع كان القرار دائماً للشرب”. كما تحدث أيضاً عن التعنيف اللفظي الذي مارسوه عليه وتهديده بإحضار عائلته لتعذيبهم أمامه إن لم يعترف.مُعتقلاتُ الأسد


وعن سؤال المحكمة له إن رأى جثثاً أم لا أجاب فراس: “رأيت كثيرين على حافة الموت كنا نتوقع أنهم لن يعيشوا طويلاً، وعندما كان يتم استدعائي للتحقيق كنت أرى أجساداً ممددة على الأرض، لم استطع معرفة ما إذا فارقوا الحياة أم لا”.


 


بقي فراس في فرع الخطيب الذي تحدث بالتفصيل عنه مدة قد تصل إلى الثلاثة أشهر كما أفاد، تم نقله بعدها إلى إدارة المخابرات العامة الفرع 285 حيث تعرض للتعذيب بالكهرباء والضرب بالكابلات وتم إخلاء سبيله بتاريخ 20.02.2013.

ومن خلال أسئلة القضاة والمحاميين لفراس عقب انتهائه من الإدلاء بشهادته أجاب فراس على عدة أمور، ومن بينها قوله: “لم أسمع أمراً مباشراً من رسلان بتعذيبي، ولكن بعد انتهاء كل تحقيق بثواني كان يتم تعذيبي” (الأمر الذي يشير لمسؤولية رسلان عن تعذيبه) وذكر أيضاً جملة قالها له رسلان أثناء إحدى التحقيقات وهي: “لن ترَ الحياة مرة أخرى (ويقصد خارج السجن)”. وذكر أيضاً أنه بعد أن تم إطلاق سراحه قضى عدة أيام مع أهله في قريته، ثم بقي في دمشق 3 أشهر وخرج منها إلى الأردن مع 150 لاجئ سوري حيث بقي بالمخيم عدة أيام وبعدها انتقل وبقي في الأردن شهرين ثم سافر إلى اسطنبول ليباشر عمله التوثيقي مع الخوذ البيضاء واستطاع من خلال ذلك الدخول والخروج من سوريا إلى تركيا. وبعد أن شعر بالتهديد وخاصة من الروس بسبب طبيعة عمله غادر تركيا إلى ألمانيا.


وعن السؤال عن حالته الصحية بعد خروجه من المعتقل أجاب فراس بأنه تعالج لفترة طويلة وخضع لعمل جراحي وأيضاً عانى من الاكتئاب لسنوات طويلة ولازال يخضع للعلاج النفسي الذي توقف بسبب أزمة فايروس كورونا الحالية.


 


بيد أن النقطة التي تم الوقوف عندها مطولاً من جهة القضاة هي ذكر فراس للشَّامة التي على خد أنور رسلان الأيسر بإفادته خلال المحكمة كواحدة من العلامات التي جعلته أكثر تأكداً أنه هو عندما رأى صورته لاحقاً، وعدم ذكره لها أثناء تحقيقه الذي أجرته معه الشرطة الجنائية الألمانية، وعن هذا قال فراس :”ربما أكون قد نسيت بسبب طول المدة أن أذكرها وربما يكون خطأ من الترجمة حيث ثبت وجود عدة أخطاء في الترجمة عند الشرطة الجنائية وأيضاً في المحكمة”.


وعند سؤاله عن هذه الأخطاء قال فراس: “الشرطة الجنائية كتبت في التحقيق أنني قلت أنه تم تعذيبي في المهجع الجماعي وهذا لم يحدث أبداً، لقد تم تعذيبي ضمن ساحة داخلية في السجن”. وفي إفادته أمام المحكمة أخطأ المترجم حينما نقل كلام فراس حين قال أن الطفل الذي رآه في فرع الخطيب تمت مساعدته بالعلاج من المسجونين فقال المترجم من السجانين، حيث نبَّه لهذا الخطأ أحد محاميي الاتهام لاحقاً بعد حديثنا معه كحضور وإخبارنا له بحدوث خطأ يغيّر المعنى الكامل للجملة التي قالها فراس.


وعن هذا الاختلاف بين الإفادتين عقّب محامي فراس فياض السيد حبيب علي محمد لليفانت نيوز بمقابلة خاصة لها معه بقوله: “يحاول ضحايا التعذيب الشديد نسيان هذه التجربة المروعة في حياتهم.


في ذات الوقت حاول فياض تذكر كل التفاصيل التي سألته عنها المحكمة، مقارنة الاختلافات الطفيفة مع شهادات سابقة أمرٌ شائعٌ جداً. الأمر المهم والأساسي هو أن فياض قد شهد التعذيب سواءً ذاك الذي رآه بعينه أو تعرض له بشكل شخصي. وأيضاً أن رسلان رآه في السجن وكان حاضراً في نفس الفترة التي اعتقل فيها فياض في فرع الخطيب حيث اعترف المتهم بنفسه بذلك”. ويقصد السيد محمد باعتراف المتهم بذلك أقواله بدفاعه الذي قدمه في الجلسة الخامسة.


تزامنت جلسات المحكمة هذه مع وقفة تضامنية لمجموعة عائلات من أجل الحرية القادمة من برلين، والتي قامت بها وفا مصطفى وحدها بسبب أزمة الكورونا الحالية، ورفعت فيها وفا صوراً لواحدٍ وستين معتقلاً ومختفياً قسرياً ومعتقلين قتلوا تحت التعذيب. من بين هذه الصور كانت صورة والدها المختفي قسرياً منذ عام 2013. وفي تصريح لها لكاميرا ليفانت نيوز قالت وفا: “لا أريد التحدث بلسان من أحمل صورهم ولا بلسان والدي، بل أريد منهم جميعاً أن يكونوا حاضرين اليوم هنا معي وأن يتحدثوا بأنفسهم أمام هذه المحكمة عما حدث معهم”.


لم تكن شهادة المُدعي الأول فراس فياض شهادةً يسهلُ سماعها، خاصة لمن خاض تجربة الاعتقال، بيد أنها الأولى، ولازال هناك الكثير مما سيتم كشفه والاستماع له في هذه المحاكمة.

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!