الوضع المظلم
الجمعة ٢٠ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
هل يحب السوريُّون وطنهم؟
  عبد الناصر الحسين

سؤال يبدو غريباً لأول وهلة فكل الشعوب يحبون أوطانهم، فما الداعي لطرح السؤال حين يتعلق الأمر بالسوريين؟ حين نرى قليلاً من السوريين يهتم بما يحدث في سوريا مقابل الكثيرين من اللامبالين فسوف يفرض السؤال نفسه للبحث عن إجابات واقعية. السوريُّون 


فكما وقع الظلم الكبير على الشعب السوري، وتحديداً خلال العقد الماضي من الزمن، فقد وقع الظلم على «مفهوم الوطن».. ظلم أتى من جهتين: من النظام ومن المعارضة.


إنّ غريزة الانتماء للوطن خلقت مع الإنسان. فمع لحظات الولادة الأولى تبدأ التصاوير بالتراكم في ذهن الكائن البشري، صانعة ذكريات لا يمكن تناسيها، فالوطن هو مرتع الطفولة ومقاعد الدراسة والحديقة والعيد، وجَدِّي وجَدَّتي.


الوطن هو الأمان والاستقرار والحقوق والحياة الكريمة. الوطن هو المكان الذي لدينا حصَّة فيه، ولا نشعر بالغربة فيه، ولا بالظلم، ولا نشعر بالخوف ولا التمييز. الوطن أسرة كبيرة وقَّع أبناؤها على عقد شراكة تتيح التواصل بالمحيط والتأثير فيه.


الوطن هو الناس، والأصدقاء ورفاق النضال، بمن فيهم الشهداء والمعتقلون. الوطن هو المكان الذي يُسخِّر ثرواته خدمة لأبنائه وليس مكاناً مؤقتاً للإقامة.


ولقد تملكتني الدهشة عندما اطلعت على تقرير تضمَّن استطلاعاً لآراء بعض السوريين في بلاد اللجوء، أجرته إحدى الصحف، فقال أحدهم عن الوطن: سوريا ليست أفضل البلدان.. وقال آخر: رأينا في الغربة كيف تخرج قوات حفظ الأمن والشرطة لحماية المواطن عندما يريد التعبير عن رأيه. فتذكرنا المشاهد المختلفة في سوريا حيث يُضرب المحتجّون بكل أدوات القمع بما فيها إطلاق النار، فالوطن هو أن تسمع كلمة «الأمن» فتشعر بالاطمئنان لا أن ترتعد فرائصك رعباً منها. السوريُّون 


وأجاب أحدهم بالقول: الوطن أصبح أي مكان أشعر فيه بالحرية والكرامة والمساواة، لذلك أصبحت سوريا وطناً مؤجلاً.. فرنسا هي وطني البديل.


وهناك من قال: الوطن الذي لا يميز بين مواطنيه إن كان ابن الريف أو المدينة، ويقدم الخدمات ذاتها للجميع هو وطني. وكيف سأخدم وطنًا لم يخدمني.. ونظر أحدهم إلى الوطن من بوابة الصداقة والأصدقاء فقال: وطني الحقيقي هو الأشخاص الذين أحبهم في أي مكان على الأرض.


واستمرت الإجابات حاملة نظرة سلبية ومفاهيم خاطئة عن الوطن، حتى قال قائلهم: لم تعد تعنيني العودة إلى سوريا دون وجود عائلتي وأصدقائي، بالطبع هنالك أمكنة محددة مرتبطة بالذاكرة أحب أن أزورها يوماً ما، ولكن ليس للاستقرار، لأنّ الأشخاص الذين كونت ذاكرتي معهم لم يعودوا هناك.


وآخر يقول: اليوم، لم أعد أرى أنّ هناك وطناً وقضية وعَلَمَاً، وأصبح الوطن المكان الذي يمنحني حقوقي ويشعرني بإنسانيتي، والمنظومة الاجتماعية التي أعيش فيها، وأتفاعل معها كإنسان، بعيداً عن أي عَلَم أوجغرافيا.


أمام تلك الإجابات البائسة عن «الوطن والوطنية»، لابد من البحث عن الأسباب التي دعت إلى ذلك النفور من سوريا لدى شريحة واسعة من السوريين.


♦ لقد اختلط مفهوم الوطن بشخصية «الأسد» حتى صار شعاراً رددته الأجيال، «سوريا الأسد».. وحين ارتكب الأسد كل تلك الجرائم نفرت منه القلوب، وكذلك نفرت من سوريا عموماً، وكأن «سوريا الوطن» هي التي ارتكبت كل تلك الفظاعات بالشعب السوري الجريح.


♦ يصحو السوريون كل يوم على قضية الجولان ليجدوا أن قطعة من أرض الوطن مستلبة، و«ربُّ الأسرة» لا يفعل شيئاً حقيقياً لاستعادتها، وعندما تستعصي قطعة أرض تهون في أعين الناس، وتهون معها قيمة الوطن. السوريُّون 


♦ ينشأ السوريون في وطن يتخاطفه الفاسدون، إلى درجة أن الرشاوى صارت ثقافة والمحسوبيات، صارت عرفاً متجذراً بين الناس، مما يقلل من قيمة موجودات البلد التي تباع وتشترى بأرخص الأثمان، وهذا يضيف سبباً آخر لهوان الوطن في نفوس بعض السوريين.


♦ عانى كثير من السوريين من شقاء المعتقلات والاستدعاءات الأمنية، فارتبطت قيمة الوطن بما يكابده الناس من شقاء التعذيب والتنكيل، حتى قال قائلهم: "كيف أحب وطناً يعذبني؟"..


♦ بعد أحداث الثورة السورية دخل مفهوم جديد كان سبباً في ابتعاد السوريين عن وطنهم وهوانه في نفوسهم، وهو مفهوم «الأممية» ببعده الداعشي المتطرف، فانخلع البعض عن الانتماء للوطن، بدعوى أنّهم منشغلون بهموم الأمة، ولا بأس من التضحية بالجنين لتسلم أمُّه.


♦ ومن أسباب هوان الوطن في نفوس أهله، ذلك النزوع الحزبي المقيت أو الطائفي الذميم، فحين يطغى الانتماء للحزب أو القبيلة أو الطائفة على حب الوطن فسوف يفقد الوطن مكانه في النفوس، وقد حدث هذا بعد اندلاع الأحداث في سوريا، حيث تمترس الكثيرون خلف حزبياتهم وانتماءاتهم الضيقة.


من خلال هذا العرض، يتبين أنّ «الوطن السوري» لم يكن أحسن حظاً من «الشعب السوري»، كلاهما كان ضحية لممارسات الديكتاتور، وحماقات المتشددين، فتفكك مفهوم الوطن وتلاشت معانيه الراقية. السوريُّون 



  عبد الناصر الحسين


ليفانت - عبد الناصر الحسين  ليفانت 


 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!