الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
التيار الشيرازي ومعضلة الدولة والثورة في إيران
كامل الخطي

ثمة دلائل دامغة على أن التيار الشيرازي كانت له صلات عضوية بالتيار الخميني في السعودية، كما في غيرها من الدول الخليجية والعربية؛ إذ إنّ مناسبة عاشوراء عام ١٤٠٠ هجرية التي وافقت الثلث الأخير من شهر نوفمبر عام ١٩٧٩، وتزامنت مع اقتحام جهيمان العتيبي وجماعته الحرم المكي، شهدت مدينة القطيف نشاطاً منبرياً محموماً مارسه حسن الصفار، وشاركه فيه مرتضى القزويني، الذي كان وكيلاً لمرجعية الخميني في منطقة خوزستان.

نجح الخطيبان في تحريض آلاف من الشباب الشيعة السعوديين في مدينة القطيف على الخروج في مسيرات تندد بنظام الحكم في السعودية، وترفع شعارات مؤيدة للخميني. أدّت هذه المسيرات إلى مصادمات دموية مع عناصر الأمن، وراح ضحيتها عدد من القتلى والمصابين، وأعقبها حملة اعتقالات واسعة طالت مئات من أبناء منطقة القطيف. لكن حسن الصفار كان قد أعدّ سلفاً خطة خروج آمنة، ونجح فيما خطط إليه، وغادر أراضي المملكة قبل أن تطاله يد الجهاز الأمني، أما مرتضى القزويني، فقد أُلقي القبض عليه، ورُحِّل إلى إيران التي يحمل جنسيتها.

شكلت أحداث شهر نوفمبر عام ١٩٧٩ منعطفاً إيجابياً بالنسبة إلى "منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية"، حيث مهد زخم الأحداث، وحملة الاعتقالات التي تلت الأحداث، الأرض أمام التنظيم، فأصبح اختفاء العشرات من صغار السن، من طلبة المرحلتين الدراسيتين المتوسطة والثانوية، أمراً مألوفاً في القرى المحيطة بمدينة القطيف، وفي أحياء مدينة القطيف التي تقع خارج منطقة القلعة التي كانت مركز المدينة؛ كما طال الأمر، المجتمع الشيعي في الإحساء أيضاً. لعبت منطقة السيدة زينب، وهي إحدى الضواحي العشوائية المحيطة بمدينة دمشق، دور محطة الانتقال الوسيطة بين السعودية وإيران. كان للتيار الشيرازي أكثر من مكتب في تلك الضاحية الدمشقية، كما كانت له مدرسة فيها أيضاً (٢).

عملت فصائل التيار الشيرازي حثيثاً على تثبيط همم الشباب المهاجر إلى إيران لثنيهم عن الانخراط في مدارس الدراسات الدينية في مدينة قم، وفي المقابل، شجعتهم على الانخراط في معسكرات التدريب على الطاعة العمياء، والالتزام الصارم بأوامر القيادة، والتدريب البدني الشاق، والتدريب على أساليب البقاء، والصمود في حالات الاعتقال والتعرض للتعذيب، وأساليب الارتجال في حالات انقطاع سلسة الأوامر، وقتال المدن، والشوارع، وصنع المتفجرات من المواد المتوفرة في الأسواق المحلية.

قامت سلطات الثورة في إيران بعملية مصادرات هائلة لممتلكات المحسوبين على نظام الشاه، وسلمت عشرات من هذه المواقع إلى حركة الرساليين الطلائع التي قامت بتوزيعها على مختلف فصائلها لتستخدمها في أغراض التدريب الأمني، والعسكري. أنشأت سلطات الثورة في إيران، مكتباً متخصصاً في دعم "الحركات الثورية"، وكان هذا المكتب ضمن منطقة نفوذ حسين منتظري، وأداره أخُ صهره محمد هاشمي، مهدي هاشمي، وابنه محمد منتظري.

شيئاً فشيئاً، بدأت إيران بالتحوّل السياسي نحو مسلك الدولة، وبدأت التخفيف من المسلك الثوري. استدعى هذا التغيير إجراءات جذرية على صعيد الدوائر العليا التي يلي بعضها مكتب الخميني من حيث النفوذ. بدأت ملامح هذا المنحى تتضح منذ منتصف الثمانينيّات، حيث صعد إلى الدوائر العليا بعض الشخصيات البرجماتية مثل هاشمي رافسنجاني، وفي ذات الوقت، اعتقل، وحوكم، وأعدم مهدي هاشمي، راعي مكتب رعاية الحركات الثورية، وأخُ صهر حسين منتظري، وكان منتظري بالنسبة للثورة الإيرانية المعادل الموضوعي لما كان عليه تروتسكي بالنسبة للثورة البلشفية، فالاثنان كانا مع تصدير الثورة؛ وحيث إنّ تصدير الثورة أمر لا يستقيم مع مشروع ترسيخ أسس الدولة، فقد تقرر تحجيم نفوذ حسين منتظري الذي كان الخليفة المعين للخميني.

أدّت السياسة الإيرانية الجديدة إلى خسارة التيار الشيرازي مواقعه ونفوذه في إيران، فقام التيار بإجراءات احترازية بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هياكله التنظيمية، فنقل وجبات مهمة من عناصر منظماته إلى الهند، وسوريا. اضطرب الوضع المالي للتنظيمات التابعة للتيار الشيرازي نتيجة اضطراب العلاقة مع إيران، وأصبح التيار يعتمد على المعونات المالية التي تصل من قرويي الشيعة في السعودية والبحرين، ومن ميسوري الشيعة الموالين للتيار في سلطنة عمان وفي الكويت. كانت السعودية هي المصدر الأهم في التمويل، وكانت الموارد المالية التي تصل إلى التيار، توضع تحت تصرف محمد تقي المدرسي، الذي مَكَّن فصيل البحرين من تلك الأموال، الأمر الذي جعل العناصر القيادية السعودية تراجع تموضعها في التيار. هذا إلى جانب المتغيرات السياسية العالمية التي كانت أهمهما مبادرة الإصلاح السوڤياتية التي بدأها ميخائيل غورباتشوف.

في ضوء المستجدات والمتغيرات التي أدّت إلى خفوت وهج الخطابات الثورية على الصعيد العالمي، بادرت قيادة منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، إلى الانفصال تنظيمياً عن الحركة الأم، وكف يد محمد تقي وهادي المدرسي عن الأموال التي ترد إلى الحركة من داخل السعودية. استمرّ هذا المخاض حوالي أربعة أعوام، وانتهى في أواخر الثمانينيّات بأن قامت قيادة منظمة الثورة بتغيير اسم المنظمة إلى "الحركة الإصلاحيّة"، وغيرت اسم نشرتها الرئيسة من "مجلة الثورة الإسلامية" إلى "مجلة الجزيرة العربية". كما ظهر على صفحات المجلة الجديدة اهتمام واضح بالتراث البحري والزراعي لمنطقة الخليج السعودية، واختفت النبرة الثورية من موادها. أرسلت قيادة الحركة الإصلاحية إشارات واضحة التقطتها القيادة السعودية بسرعة، وردت عليها بتطمينات ودية. في تلك الأثناء، أعادت قيادة الحركة اكتشاف قيمة العمل المدني العلني في داخل السعودية، واكتشفت أن أنماط الوجاهة والزعامة الاجتماعية التقليدية غير محمية بأُطُرٍ حزبية، وبالتالي، فإزاحتها، والحلول محلها أمر قابل للتحقق إذا اشْتَغِل عليه كما ينبغي.

انتهت عمليات تبادل الإشارات عن بعد مع القيادة السعودية إلى مسلسل طويل من الاجتماعات التفاوضية مع ممثلي الحكومة السعودية، وتوّج هذا المسلسل الطويل، بلقاء حميمي جمع أمين عام الحركة وثلاثة من أعضاء لجنتها المركزية مع الملك فهد بن عبد العزيز.

هذا اللقاء الحميم، وما تمخض عنه من نتائج إيجابية غير مسبوقة في علاقات الأنظمة العربية مع معارضاتها، أعطى وجاهة ربما تجاوزت ما حلمت به قيادة الحركة، عادت قيادة الحركة وكوادرها من الخارج، وبضمانة شخصية من الملك، لم يتعرض أحد من منسوبيها لأي مساءلة أمنية، بل إن الكوادر القيادية في الحركة عادوا تجللهم هالات الوجاهة، ومنحتهم الحكومة السعودية مُنحاً سخية لتعديل أوضاعهم ومساعدتهم على العيش الرغيد.

انحلت الحركة الإصلاحية كتنظيم -ظاهرياً- ولكنها احتفظت بإمكاناتها الحزبية، ووظفتها في الإعلام الجديد، والعلاقات العامة، والأنشطة المدنية ذات الطابع المعرفي، والثقافي، وإدارة المناسبات، وتنظيم المهرجانات، وحشد التأييد إذا لزم الأمر ذلك.

هذه لمحة سريعة عن أحد أهم فصائل الإسلام الحركي الشيعي التي امتلكت شبكات عابرة للحدود، ولعبت بعد انتهاء طورها الثوري/ السري وتحولها إلى العمل الإصلاحي/ العلني، نتيجة العفو الملكي التي حصلت عليه كوادرها من جميع المستويات، دوراً محورياً في تشكيل المزاج والموقف الجمعي لنسبة لا يستهان بها من المواطنين الشيعة في السعودية، ولا أجدني مبالغاً إذا اعتبرت أن التأثيرات التي أحدثتها "الحركة الإصلاحية" بعد التخلي -الافتراضي- عن هيكلها التنظيمي التقليدي، كان أكثر عمقاً من التأثيرات التي أحدثتها في طورها الثوري/ السري، وهذا الجانب على وجه الخصوص، يحتاج إلى رصد علمي متخصص، أرجو أن أجد الوقت الكافي لأعمل عليه وأقدمه للقراء الكرام.

 

كامل الخطي

ليفانت - كامل الخطي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!