-
الخطاب الشعبوي والحسابات المقلوبة
تحتاج المرحلة الراهنة من عمر الثورة السورية، ربما أكثر من أي وقت سابق، إلى خطاب هادئ متعمق بعيد عن ردود الأفعال الغريزية والعاطفية، خطاب يعيد مراجعة كل الأسباب التي أدت إلى النتائج الحالية ويتخلص من الحالة الانفعالية التي لم تنتج سوى حالة الدعاء والشتيمة، وهي حالة لا ترتبطها أي صلة بالفعل الوطني الواعي.
غير أن بعض المحسوبين على الثورة، ذهبوا إلى أبعد من مجرد الخطاب الانفعالي، فراحوا يبحثون عن انتصارات متوهمة يسعون من خلالها إلى إطفاء لهيب الخسائر العسكرية بزيادة صب الزيت على النار، وتحويل النتائج التي لم تكن بأي حال من الأحوال في صالح الثورة إلى إنجازات كبرى وكأنها كانت هدفها الجوهري.
أغرب تلك الطروحات وأكثرها خطراً في التأثير على البسطاء من السوريين، واقتيادهم إلى منطقة أخرى بعيدة كل البعد عن أهداف الثورة وجوهرها، هو الحديث المتواصل عن أعداد قتلى النظام باعتباره من إنجازات الثورة، وقد انتقلت هذه الفكرة من مجرد حالة شعبية إلى حالة تنظيرية يتبناها بعض المعارضين البارزين.
أحدث المنشورات التي تحاول ترسيخ تلك الفكرة جاءت على لسان الصحفي المعارض أحمد كامل في صفحته على فيس بوك، والتي تحدث فيها عن فوائد عسكرة الثورة، فقد جاء في المنشور بالحرف: "بسبب عسكرة الثورة قتل ٧٠٠ ألف من الشعب السوري و٣٠٠ ألف من النظام، ولو بقيت الثورة سلمية كان قتل مليون من الشعب السوري وصفر من النظام".
ظاهرياً، تبدو نوايا صاحب المنشور هي رفع معنويات السوريين المؤيدين للثورة وتخفيف وقع الهزيمة النفسية التي يشعرون بها، ليس بسبب النتائج العسكرية بالتأكيد، حيث يعي الجميع الفارق العسكري الكبير بين المقاتلين ضد الأسد، والحلف الذي يحاربهم، كما يعرف الجميع أن المسألة ليست بطولة من النظام وحلفائه أن ينتصر على مجموعات لا تمتلك أدنى مقومات الانتصار على المستوى العسكري، فالسبب الأساسي للإحساس بالهزيمة هو الصدمة الكبرى التي سببها الموقف الدولي وهو يعيد إنتاج الأسد رغم كل ما حدث.
ربما غاب عن صاحب المنشور مقدار مساهمة هذا الطرح في تشويه صورة الثورة، ومقدار الخدمة التي يقدمها للنظام نفسه، فكل ما يريد قوله هو أن الثورة قتلت مئات الآلاف من أتباع النظام، واعتبار ذلك انتصاراً كبيراً لها، وكأنها أنجزت مهمتها على أكمل وجه.
لقد قامت الثورة لإسقاط النظام واستبداله بنظام ديموقراطي تعددي، وليس لقتل أتباعه، وطالما أن هذا الهدف لم ينجز، فإن أي محاولة للحديث عن انتصارات للثورة، ستتشابه تماماً مع حديث النظام عن انتصاراته رغم ما فيها من زيف وهشاشة، وبيع بالجملة، وتنازل تام عن السيادة واستقدام لمجموعة احتلالات، في ظاهرة لم يعرفها التاريخ السياسي من قبل.
لقد أجبرت الثورة على التسلح بهدف حماية المدنيين لا لتكون المبادرة بقتل الآخرين، وهذا ما يتوجب علينا تأكيده دائماً، بدل أن نتباهى بتسليح الثورة، ونتعامل معه على أنه نوع من البطولة الخارق.
النقطة الجوهرية التي لا يتنبه أصحاب هذا الطرح إليها، هي أن النظام لم يهتم يوماً بعدد ضحايا، ولم توجعه تلك الأعداد التي ماتت دفاعاً عنه، وأنه لا يتعاطف مع من يموتون من أجله ولا يحترمهم، بل ينظر إليهم نظرة دونية ويعدهم عبيداً أو مرتزقة، فضلاً عن استثمارهم لتقوية روايته التي تفترض خصماً مسلحاً هدفه القتل والتدمير، وليس البحث عن سورية أفضل.
لم يتردد النظام نفسه منذ بداية الثورة في قتل الكثيرين من أتباعه ومنهم ضباط كبار وقياديون موالون، ليلصق التهمة بالثورة ويشوه صورتها، وليس بعيداً عن الذاكرة قتل النظام لخلية الأزمة، والذي عُدَ حينها من أقوى عمليات المعارضة، وتبنى النظام نفسه رواية المعارضة ليخلق لها انتصاراً وهمياً استثمره حتى النهاية كإحدى الذرائع الكثيرة التي اختبأ خلفها وهو يدمر سورية وشعبها.
إن نظرية انتصار الثورة من خلال كم الضحايا الذي أوقعته بأتباع النظام، هي في الواقع طرح في منتهى الشعبوية والسذاجة السياسية فهي تساعد النظام وتقدم له خدمة جليلة في تشويه صورة الثورة وهو الهدف الأعلى للنظام الذي عمل عليه منذ اللحظة الأولى.
لم يكن ثمة ثورة ضد ديكتاتور في التاريخ كان هدفها مجرد قتل أتباع الديكتاتور، الثورات تقوم ضد الديكتاتور نفسه وضد الفكر الديكتاتوري، ولا يقاس نجاحها أبدا بأعداد من تمكنت من قتلهم من أتباع الديكتاتور وحماته.
الخطاب الشعبوي والحسابات المقلوبة الخطاب الشعبوي والحسابات المقلوبة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
قطر تغلق مكاتب حماس
- November 11, 2024
قطر تغلق مكاتب حماس
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!