-
العنف كتعويض عن فقدان الشرعيّة
ولعلّ التصريح الشهير لقائد سرايا الدفاع "رفعت الأسد" قبيل اقتحام مدينة حماة (سأحول حماة إلى مزارع للبطاطا) يؤكد هذا التصوّر. فكلّ الأجهزة القمعية للدولة الموجهة نحو الداخل كأجهزة الأمن والاستخبارات، أو الموجهة نحو الخارج كالجيش، أُعيد بناء أساساتها وهيكليتها خلال عهد الأسدين لتكون آلة إرهابية محترفة ومنظمة داخل دولة تعمل وفق نظامٍ خاص بها ولها. ويمكن القول يقيناً إنّ سطوة أزلام النظام، المعروفين بالأسماء، غدت هي اليد القابضة على عنق السوريين وبتفويضٍ مطلق من حافظ الأسد. أما في عهد الأسد الابن فقد تغيرت قواعد اللعبة تماماً، خاصة بعد انطلاق الثورة السورية، إذ أصبح الشعب السوري يواجه أشكالاً من العنف أكثر شناعة وضراوة عما كان يجري سابقاً، فالإفراط والجنون في ممارسة العنف الوحشي ضدّ الثوار أُريد منه تركيع المجتمع، وجعله عاجزاً لايستطيع السير إلاّ على عكازي الحاكم. وتبقى التفجيرات، وهي أشدّ آليات العنف غدراً وقسوة، أبرز الأجندات التي جرى استثمارها إعلامياً من قبل النظام، لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية، ولإلزام السوريين باعتناقِ تصوراته الفاشية ورؤاه الخادعة، ليستمد شرعيته الوهمية من تسويق سرديته الشهيرة حول كونه "صمام الأمان" الوحيد للبلاد.
ولا شك حيازة السلطة ثم الانفراد بها، استوجب من النظام السوري عدم التفكير بأيّ مشروعٍ وطني يكون مصدراً من مصادر الشرعية، في وقتٍ سعى فيه إلى إيجاد الحوامل السياسية للمشروع السلطوي، والتي تمثلت بخطابٍ قومي تقليدي وبائس، يخفي تحته كل سوء الاستبداد والفساد، علاوة على أنّ هذا الخطاب الخادع قد استخدمه النظام ذريعة لمجمل ممارساته الشنيعة بحقّ الشعب السوري. هكذا أصبح العنف جزءاً أساسياً من هيبة الدولة، فلا يصح أن نتخيلها بمعزلٍ عنه، كما أصبحت مظاهره حالةً شائعةً في الشوارع، ناهيك عن البيوت والمدارس، بعد أن صار صوت الرصاص، وصدى البراميل المتفجرة، ورائحة الدم، وأصوات الضحايا تطغى على ما عداها.
واليوم وبينما تتحدّث وسائل الإعلام السورية وبصفاقةٍ مستفزّة عن "انتصارات الجيش" على مختلف الجبهات، وإحكام السيطرة الأمنية على غالبية أنحاء البلاد، وفي ظلّ انسداد الأفق السياسي جرّاء رفض النظام، وداعميه، السير في خريطة الطريق الدولية للحل السياسي، التي وضعها قرار مجلس الأمن رقم (2254) لعام 2015، ما دفع كثيراً من الجهات الإقليمية والدولية إلى التحذير من احتمالات انهيار ما تبقى من الدولة السورية، وحصول اضطرابات عنيفة وفوضى قد تُطيح بالاستقرار الهشّ أصلاً، في هذا الوقت الحرج يعود شبح التفجيرات ولم ينسَ السوريون بعد آخر انفجار استهدف دمشق، نهاية أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، وأسفر حينها عن مقتل مفتي دمشق الشيخ "عدنان أفيوني". يعود الشبح المتواري وبعد يومين فقط من استئناف محادثات صياغة الدستور السوري في جنيف برعايةٍ أممية، في إطار جهود "طويلة الأمد" تبذلها الأمم المتحدة، لتوحيد جميع مكونات المجتمع السوري في عمليةٍ واحدة، ووضع دستورٍ جديد وإجراء انتخابات، كذلك بناء سلام دائم بعد أكثر من عقدٍ من الحرب.
وفي التفاصيل قُتل (14) موظفاً تابعاً لمؤسسة الإسكان العسكرية، كما جُرح ثلاثة آخرون، جراء انفجار عبوتين ناسفتين، استهدفت حافلتهم قريباً من جسر الرئيس وسط العاصمة دمشق. وفي وقتٍ وصفت فيه السلطات السورية الانفجار بالعمل الإرهابي، أعلن فصيل "سرايا قاسيون" المسلّح الذي ينشط في مدينة دمشق وريفها مسؤوليته عن التفجير، وسبق أن تبنّى عدداً من الهجمات التي استهدفت الجيش السوري والفصائل المتحالفة معه.
وذكر مصدرٌ عسكري أنّ العبوتين الناسفتين تمّ لصقهما مسبقاً بالحافلة وأنّ وحدات الهندسة العسكرية فككت عبوة ثالثة كانت مزروعة في المكان. في هذا الوقت جاء تصريح وزير الداخلية تقليدياً ومستهلكاً ومتعالياً، مؤكداً أنه "ستتم ملاحقة الأيادي الآثمة وسيتمّ بترها أينما كانت". والواضح الجليّ أنّ التفجير، كالكثير من حوادث العنف السابقة، سيُطوى في غياهب النسيان، ليتمّ استثماره لاحقاً. وبالفعل لم يمضِ وقت طويل حتى قصفت قوات النظام منطقة مكتظّة في مدينة أريحا بمحافظة إدلب، التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، ما أسفر عن مقتل (13) شخصاً، غالبيتهم من المدنيين، وبينهم أطفال، بحسب ما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان.
في سياق موازٍ، أتت الحليفتان للإدلاء بدلوهما، فجاء في بيانِ الخارجية الروسية، حسبما ذكرت وكالة أنباء /تاس/ الروسية على نشرتها الإنجليزية قولها: "ندين بشدة الهجوم الإرهابي الذي وقع في دمشق، ونعرب عن خالص تعازينا لذوي الضحايا ونتمنى الشفاء العاجل للمصابين، ونعتبر هذا الهجوم بمثابة جريمة دموية تهدف لإشعال جولة جديدة من العنف وإفشال جهود التسوية السياسية". على المقلب الآخر وصف الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، الهجوم بـ"الإرهابي"، وقال: "إن الأعمال الإرهابية العمياء والجبانة محكوم عليها بالفشل ولا يمكن أن تقوّض عزم سوريا حكومة وشعباً على محاربة الإرهاب وتحرير الأراضي المحتلة واستقرار هذا البلد".
الجدير ذكره أنه سبق هذا التفجير بيانٌ صدر عن محققي جرائم الحرب التابعين للأمم المتحدة، أكدوا فيه أنّ سوريا ما زالت غير آمنة لعودة اللاجئين بعد مرور عشر سنوات على بدء الصراع، ووثقوا تزايداً في العنف، مشددين على أنّ الوضع بشكل عام يزداد قتامة وبؤساً.
وبالعودة إلى أصل المشكلة، نستطيع أن نجزم بأنّ المعارضة، بكافة أطيافها، لم تستطع أن تنظم عملياتها المضادة ضد وحشيّة النظام، حتى تؤمّن غطاءً عسكرياً شعبياً على مستوى الوطن كله، ينجح في تجريد النظام من أجهزة عنفه بالتدريج وينزل فيه الهزيمة بأقصر وقت ممكن. وكثيراً ما كان العنف المضاد غير منضبط يعمل دون تنسيق أو خطة استراتيجية عسكرية، ليودي بحياة الكثير من السوريين الأبرياء، هذا بالإضافة إلى أنّ تغليب الطابع الديني أو الأصولي أو الجهادي على فكر الكتائب المسلحة، ساهم بقوة في تقليص الحاضنة الشعبية والاجتماعية.
وفي الحقيقة العنف المجرد في سوريا لايعكس فقط الأزمة السياسية التي يعاني منها المجتمع، وإنما أيضاً الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ارتدّت على ذاتها بتحولاتٍ ثقافية وأيديولوجية ودينية. ويبقى القول إنّ عنفَ النظام السوري هو، قطعاً، طريقةٌ للتعويض عن فقدان السلطة والشرعية، وهو بمثابة حرب وقائيّة لضمان بقائه، تتحول تلقائياً إلى طريقة حياة تمتد إلى خلايا المجتمع كبنيان، وإلى أجزائه كأفراد، وهنا يكمن الخطر المدمر، إذ ما إن يصبح العنف ثقافة وسلوكاً وفكراً حتى يحفر آثاراً عميقة في المجتمع، ويصبح له كيانه الخاص الذي يعمل ضمن آلياته وقوانينه الهدامة، ليغدو أشبه بأدوات مؤسساتية تعمل بمنهجية محترفة لخدمة السلطة السياسية من أجل ترسيخ حكم الفرد الواحد والحزب الواحد ومنظومة الحكم الشمولي الواحد.
ليفانت - عبير نصر
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!