الوضع المظلم
السبت ٢٨ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
المشهد الأخير من سيرة حاتم علي
حاتم علي
 
يتلو ويجوّد الشيخ القارئ في جامع الحسن آياتِ سورة ﴿السجدة﴾، تنتهي الآياتُ الثلاثون، يسود صمتٌ تقطعه أحاديث خافتة لجموع بدأت تتوافد إلى شارع شكيب أرسلان في منطقة أبو رمانة بدمشق، يعود صوت القارئ مجدداً، هذه المرة يتلو آياتِ سورة ﴿يس﴾ الثلاث والثمانين، توقيت الحكاية عند الظهيرة، حوالي الساعة الواحدة والنصف، في اليوم الأول من كانون الثاني 2021، الشخصية الرئيسية والوحيدة، هي المخرج السوري حاتم علي. 
 
تزداد الجموع إقبالاً، تتوزع قبالة الجامع، على الرصيفين المتقابلين، وفي منتصف الشارع بينهما، الوجوه المتفرجة منها ما يظهر على شاشَتي التلفاز والسينما، ومنها ما هو غير معروف للعامة، يطغى اللون الأسود على الملابس، تنحبس الدموع تارة في محجر العيون، وتارة يغلبها الحزن، وتنسدل مخففة من انقباض القلب، العبارات المتداوَلة تُعبّر عن الصدمة، وعن استحالة إيجاد تفسير منطقي لتصديق أحداث الحكاية ”مو معقول اللي صار، في شي مو مفهوم. صحيح لا اعتراض على حكم الله، بس اللي صار ما بيتصدق“.

تمر عشرون دقيقة، وينتهي الشيخ القارئ من تلاوة سورة ﴿يس﴾، يظهر صوت أحد الحاضرين، وهو سعيد البرغوثي، صاحب دار كنعان للدراسات والنشر، يحكي عن الكتاب الصادر عن داره عام 2015، بعنوان ”الاستبداد المفرح-حوارات مع حاتم علي“، كان قد أنجزه على مدى أربع سنوات، فجر يعقوب، المخرج والكاتب الفلسطيني. يُفصح حاتم علي في الكتاب عن أول صورة تلفزيونية شاهدها في تلفاز بيت الجيران، في منطقة الحجر الأسود بريف دمشق، حيث كان يسكن مع عائلته، بعد نزوحهم من القنيطرة، وعن إلحاحه أن يشتري والده تلفازاً، كانت تكلفته أن يبيع الوالد نصف البيت ليشتري التلفاز، كما يحكي عن موهبة الكتابة التي بدأها بكتابة الألغاز والقصص التشويقية، ومَنَحَتْه القدرة على امتحان خياله الذي بدأ يتشكل، ”ويهاجر خارج حوش البيت وحدود المدينة“، وجعلته يصوغ مع موسى، جار طفولته، مقاطع من سيرة حمزة البهلوان على شكل نص مسرحي، يتدرّج مؤلف الكتاب في أسئلته ليحيط بانعطافة حاتم علي التي أوصلته إلى إخراج مسلسلات تلفزيونية وأفلام سينمائية بأثرٍ لا يُمحى.

 

بعد هذه الوقفة، تسود بضع لحظات من الأحاديث المختلطة المسموعة من تجمعات الحضور، يخرج من مكبرات صوت جامع الحسن دعاء يُكرر ثلاث مرات، يؤكد أن لا مهرب من تصديق الحكاية ”سبحان الحي الذي لا يموت.. انتقل بالوفاة إلى رحمة الله تعالى وغفرانه، الواصل إذا شاء الله تعالى برحمته إلى فسيح جنانه، المرحوم المخرج حاتم علي“.
 
إذن هذه المرة، وبخلاف ما جرت عليه العادة، لن يقف المخرج، ذو القسمات اللطيفة الهادئة، والعقل المُفَكِك لأدق التفاصيل، بين الجموع حاملاً صفحات السيناريو والحوار، لن يوزِّع الأدوار الرئيسة والثانوية، ولن يجلس مسترخياً، شابكاً يديه خلف رأسه، بانتظار التحضير للمشهد التالي.. المشهد الآن هو المشهد الأخير، ليس فيه إعادة، وليس فيه تمثيل، كل ما فيه حقيقي وواقعي لدرجة أنّ المخرج لن ينام في فراشه بعد الانتهاء من التصوير، سينام في حفرة لا نور فيها ولا أحلام، البطل هو المخرج نفسه، يؤدي دوراً رئيساً، كُتِب له وحده، والمخرج هذه المرة هو الموت، والحوارات تلقائية غير مكتوبة، تُديرها فوضى الحزن.

 

عند الساعة الثانية تقريباً، وعلى وقع تلاوة ثانية لسورة ﴿يس﴾، يصل المخرج من مستشفى الشامي، ممدداً في صندوق خشبي، محمولاً فوق الأكتاف، بعد أن قطع رحلة جوية من القاهرة، حيث تُوفي بنوبة نالت من القلب الرقيق مباشرة، مهّد لها، حسب التفسير الطبي، تعبٌ وألم صدري ضاغط. يختلط صوت قارئ التلاوة بأصوات المشيعين.

 

يتلو القارئ الآية ﴿۲۱﴾، "وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"، فيما يردّد المشيعون "لا إله إلا الله، لا إله إلا الله".
 
يوضع الجثمان داخل الحرم لتُتلى عليه صلاة الوداع الأخيرة.
 
في الموقع الخارجي لمشهد الحكاية الأخير، حيث الجموع المنتظرة انتهاء الصلوات، تدور عدسات التصوير ملتقطة صوراً مقربة للوجوه، وتسجّل الميكرفونات رسائل المودعين، تتسيّد انطباعات الحزن اللقطات، وتَقطَع الدموع والأصوات المخنوقة عبارات الرثاء، الآن يدرك جميع الحاضرين أنّ الخبر الذي شاع، في الـ29 من شهر كانون الأول 2020، لم يكن مجرد إشاعة نهاية العام، وليس مُلفقاً من منافسين لنجاحٍ حققه المخرج في إنتاجاته السورية والعربية، المخرج الذي قدّم فرصاً استثنائية لطلاب وطالبات المعهد العالي للفنون المسرحية، وقد سبق أن درّس فيه التمثيل، المخرج الذي لم يكن يتردد في منح نصائحه لطالبيها، وجَعَلَ من ممثلين وممثلات بسجل مهني قديم، يُقَولِبون مهارات التمثيل حسب رؤيته ومفهومه العَميقَين للشخصيات، الآن لن يطلّ المخرج مجدداً، ليقول للجمهور، ولمن يشاركه المهنة:
 
- العالم العربي يحتاج إلى معاهد سينمائية، يحتاج إلى مساحات من الحرية، كي نخلق بيئة اجتماعية وثقافية، ويحتاج إلى مساحة كبيرة من الحرية فيما يتعلّق بالرقابة الحكومية والاجتماعية، وإلى دعم الأفكار والمشاريع الجديدة.
 
لن يكرر اعترافه أنّ ”أحداً لا يستطيع أن يروي ما حدث، وحتى يتحقق ذلك، لابد من توفر ظرف مختلف، سياسياً واجتماعياً وثقافياً“.

 

تمضي نصف ساعة، تتوقف الصلوات، يخيم الصمت، ترافق موسيقا مسلسل التغريبة الفلسطينية التصويرية أحداث الحكاية الأخيرة، ابتكرتْ فكرة تشغيلها شابة مكلومة على رحيل مخرجها المبدع، تزيد على كلمات شارة النهاية، كلماتٍ نبعت من قلبها المفطور.
 
- "الله معك يا حاتم.. أهلا وسهلا فيك بالشام.. أهلا وسهلا فيك بيناتنا.. فرحتنا وزعلتنا".

 

 
عند الساعة والثانية يُرفع أذان العصر، تَخمد الموسيقا التصويرية، تسبق عودة المخرج إلى الحاضرين في الخارج كلمة الشيخ الذي صلى على جثمانه.
 
- اليوم نصلي على راحلنا الكبير رحمه الله، أدخله الله الجنة، الأستاذ حاتم علي، صاحب الأعمال الشهيرة، الأعمال الهادفة، صاحب الرسالة، لقد قدم لنا شيئاً عظيماً، رأيناه في مسلسل سيدنا عمر بن الخطاب، رأيناه في صلاح الدين الأيوبي، رأيناه في التغريبة الفلسطينية، أسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته.
 
ما هي إلا دقائق بعد التكبيرات الأربعة، ويعود المخرج المسجّى في النعش إلى موقع المشهد الخارجي الأخير، يرافق خروجه التصفيق والزغاريد، وتعاد أغنية شارة التغريبة الفلسطينية مجدداً، ما حدث ليس له تفسير، العقل في فواجع كهذه، يعجز عن إيجاد تعليل منطقي، يبرر فداحة ما يرتكبه الموت، قد يختصر عنوان مسلسل ”أهو ده اللي صار“ للمخرج الراحل كل شروحات العلم والمنطق، ما حدث قد حدث.

 

وداعاً حاتم علي، ليس الوسم الأمثل للتعبير عن تغييبه في مقبرة باب الصغير، بل إلى اللقاء.. الخلاصة الوحيدة الأكيدة التي لن يمحي أثرها الريح ولا الرمال؛ أنّ كلَّ ما فوق التراب سراب، وما تحته هو الحقيقة.
 
ميرنا_الرشيد: كاتبة وصحافية سورية

 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!