الوضع المظلم
الأحد ٢٩ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً
عبد الناصر الحسين

في لحظة مفصلية يصحو حكام إيران على قناعة راسخة مفادها أن اللعب مع الكبار يختلف كثيراً عن اللعب مع الصغار!. فالسنوات السابقة شهدت عربدة إيرانية في المنطقة أتاحت لها السيطرة على أربع عواصم عربية تزامنت مع قتل آلاف من الضحايا وتهجير أعداد مهولة من السكان الأصليين من بلداتهم.


لم يشعر ملالي إيران بالذنب وهم يرتكبون كل تلك الجرائم ولا بالخجل لكونهم حطموا الأرقام القياسية تاريخياً في همجتيهم، بل كانوا يستشعرون بنشوة الانتصار ونزوة القوة والجبروت. ولا غرابة في ذلك لأن جزءاً كبيراً من خصومهم كانوا من الأطفال والنساء والمدنيين العزل.


فعلوا كل ذلك وهم واقعون تحت ضغط العقوبات الاقتصادية التي لم ترتفع عنهم طيلة أربعة عقود من الزمن. فعلوا ذلك رغم  العزلة الدولية المفروضة عليهم حتى صنّفتهم الولايات المتحدة الأمريكية كدولة مارقة، ولو أطلق العنان لإيران لأنجزت من برنامجها التدميري أكثر مما أنجزته بكثير.


العقوبات المتلاحقة والمتتابعة على إيران أوهنت الجسد الإيراني اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً واجتماعياً، فبحث ساسة إيران عن مخرج من عنق الزجاجة، بالضرب هنا وهناك من دون تركيز، فاكتُشفت معظم محاولاتهم التفجيرية، ونجحت بعضها كاستهداف محطة «أرامكو».


ثم اقتربت إيران من المصالح الأمريكية واستهدفت ميليشياتها في العراق بهجوم صاروخي قاعدة عسكرية عراقية في كركوك شمالي العراق مما أسفر عن مقتل متعاقد أمريكي وإصابة العديد من الجنود الأمريكيين يوم الجمعة الأخيرة من العام المنصرم.


أمريكا دعت بغداد إلى اتخاذ خطوات لحماية المصالح الأمريكية في البلاد في مواجهة تلك الهجمات، وصرّح وزير الدفاع الأمريكي «مارك إسبر» للصحفيين وقتها بأنه قلق بشأن ما يرد حول الهجمات على قواعد في العراق حيث توجد القوات والمعدات الأمريكية، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء بالإنابة عادل عبد المهدي. مضيفاً أن الولايات المتحدة لديها: حق الدفاع عن النفس، حيث نطلب من شركائنا العراقيين اتخاذ إجراءات استباقية... للسيطرة على ذلك، لأنه ليس جيداً لأي منا.


بعد ذلك حضر الحدث الكبير حين أعلن «الحرس الثوري الإيراني»، الجمعة 3/1/2020 مقتل قائد فيلق القدس التابع له «قاسم سليماني» في قصف أميركي، استهدف موكبه في مطار بغداد الدولي، ومعه القيادي البارز «أبو مهدي المهندس» ومسؤول مديرية العلاقات في الحشد، «محمد الجابري»، ومسؤول الآليات، «حيدر علي»، وغيرهم، في قصف استهدف الموكب بالقرب من مطار بغداد الدولي.


الاستهداف جرى بعدة صواريخ من طائرة مسيّرة، حيث استهدفت الصواريخ سيارتين كانتا تقلان سليماني ومسؤولين آخرين. حدث هذا قرب منطقة الشحن في مطار بغداد، بعد لحظات من خروجه من الطائرة التي أقلته من لبنان، وجاءت أحداث مطار بغداد الدولي بعد يومين من استهداف ميليشيا «الحشد الشعبي» على السفارة الأميركية في بغداد، عقب ضربات جوية أميركية لقواعد تابعة لميليشيات كتائب حزب الله العراق.


كان لمقتل سليماني وقع الصاعقة على «النظام الإيراني» الذي أثار عواصف من التهديدات المتكررة ضد أمريكا وإسرائيل، تهديدات جاءت في خطاب زعيم «حزب الله» «حسن نصر الله»، وأخرى على لسان المرشد الأعلى «علي خامنئي»، عدا عن تهديدات «قيس الخزعلي» قائد «عصائب أهل الحق»، و«هادي العامري» قائد «منظمة بدر».


وفي أجواء من الغضب انطلقت مناشدة «زينب» ابنة «قاسم سليماني» في تأبين والدها لأبناء العم الأخذ بثأر والدها مشيرة بالأسماء إلى رأس النظام السوري «بشار الأسد» وزعيم ميليشيا حزب الله «حسن نصر الله» و«عبد الملك الحوثي» وغيرهم، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين حول استبعاد زينب الإشارة إلى رجالات طهران.


لكن التصريحات الأمريكية كانت على قلتها تحمل موجات من الرعب فيما لو عادت إيران إلى استهداف المصالح الأمريكية، وقد وصلت رسائل التهديد الأمريكي إلى مسامع كبار المسؤولين الإيرانيين فبدأوا بحساب الخسارة قبل الربح، ليجدوا أن «ملاعبة الأمريكان» قد تنطوي على مخاطر جسيمة، لا سيما وأن الرئيس الأمريكي «دونالد ترمب» هدد بتدمير «52» هدفاً استراتيجياً لإيران لو تجرأ الإيرانيون على استهداف أي أمريكي، في إشارة إلى عدد الرهائن الأمريكيين الذين احتجزهم طلاب إيرانيون مع بداية انتصار «ثورة الملالي» عام 1979.


لكن المشهد العاطفي في إيران كان أقوى من حسابات الملالي، هناك حين أجلّت مراسم دفن سليماني الثلاثاء، بعد مقتل العشرات وإصابة المئات من المشيعين في تدافع بمسقط رأسه «كرمان» جنوب شرق البلاد. وسط هتافات الانتقام و«الموت لأمريكا». حيث وقف الجنرال «حسين سلامي» القائد العام للحرس الثوري الإيراني خلال المراسم خطيباً مجلجلاً يشيد بسليماني وبمساعده «حسين بورجعفري» الذي قتل معه، مهدداً الولايات المتحدة بالانتقام.


 يبدو أن ساسة إيران الذين يتقنون سياسة «حافة الهاوية» لا يحسنون التصرف حين تنزل بهم نازلة بحجم خسارة «مهندس سياسات إيران لشؤون تصدير الثورة» فبدت مواقفهم مرتجّة وتصريحاتهم مهتزّة، ومن ذلك أنهم أعلنوا في دوائر محدودة عن تأجيل عملية الدفن إلى ما بعد الانتقام لقتلاهم فألزموا أنفسهم بالمسارعة في الرد على العملية الأمريكية قبل استكمال دراسة أفضل الخيارات.


ومن «مرتجلاتهم» أيضاً- وتزامناً مع مراسم دفن سليماني- اعتمد مجلس الشورى الإيراني الثلاثاء بشكل طارئ قانوناً يعتبر كافة القوات الأمريكية، بما في ذلك وزارة الدفاع، «إرهابية». وقال قائد الحرس الثوري الإيراني «حسين سلامي» مخاطباً الحشد في كرمان: لقد بدأ طرد الولايات المتحدة من المنطقة... إرادتنا حازمة!. نقول أيضاً لأعدائنا: إننا سننتقم، وإذا ضربوا «مجدداً» فسوف ندمر مكاناً محبباً لقلوبهم. وهم يعرفون عن أي أمكنة نتحدث.


ثم تقدمت إيران خطوة استفزازية للأمام نحو تأزيم الموقف حيث طلب «البرلمان العراقي» من الحكومة العمل على إنهاء وجود أي قوات أجنبية، بما فيها الأمريكية، في العراق وعدم استخدامها لأراضيه ومجاله الجوي ومياهه لأي سبب. وصوت البرلمان على قرار يطالب بإلغاء طلب العراق المساعدة الأمنية من التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، الذي يقاتل تنظيم الدولة بسبب انتهاء العمليات العسكرية في العراق وتحقيق النصر، كما دعا رئيس الوزراء العراقي «عادل عبد المهدي» في وقت سابق إلى إنهاء وجود القوات الأجنبية.


ومن عادة القوم في هكذا مناسبات أن يصيح مناديهم «من يزيد» ليتقدم الزعيم الشيعي «مقتدى الصدر» معلناً في بيان له أن قرار البرلمان هزيل، وداعياً إلى غلق السفارة الأمريكية ومقاطعة منتجاتها كذلك، مطالباً بدعوة الفصائل العراقية في الداخل والخارج إلى تشكيل ما سماه بـ «أفواج المقاومة الدولية» مهدداً بأنه إن لم يتم ذلك فسيكون له «تصرف آخر».


وفي تصعيد آخر غير محسوب العواقب أعلنت الحكومة الإيرانية أنها أبلغت بالتنسيق مع رئيس الجمهورية «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» عن تخليها الكامل عن التزاماتها في الاتفاق النووي ما لم ترفع العقوبات الأمريكية عنها. وقالت: من اليوم فصاعداً لن يكون أمام البرنامج النووي لإيران أي قيود على مستوى تخصيب اليورانيوم، وسيكون النشاط وفقاً للحاجة الفنية. مثل تلك الخطوة ساهمت في مباعدة الأوربيين عن إيران مسافات جديدة لصالح الاقتراب من نهج ترمب المتشدد حيال النظام الإيراني.


كل هذا كان يحدث تحت الشمس لكن الذي كان يحدث في الخفاء وبعيداً عن الضجيج والتهييج هو سعي دول خليجية وأخرى أوربية لنزع فتيل التوتر والابتعاد عن جر المنطقة إلى المجهول نتيجة تعاقب الأفعال وردّات الأفعال، وفي مثل تلك الحالات يتدخل وسطاء بين جانبي التوتر عارضين خدماتهم في إيجاد توليفة ترضي الطرفين!... إيران يرضيها السقف الأعلى وهو أن تنجز وعودها لجمهورها المتطلع للانتقام باصطياد شخصيات وازنة عند الأمريكان وليست أقل وزناً من سليماني عند إيران. لكنها تكتفي مع الوسيط «المحسن» بتمثيل هذا المشهد أو نصفه أو ثلثه على خشبة المسرح العراقي!.


أما أمريكا التي نالت من إيران منالها وأكثر، فتكتفي بالسماح لإيران بتفريغ شحنة الغضب لديها ببضعة صواريخ ترتطم بالفلاة فلا تحفر إلا بعمق أشبار!. وكل ذلك عبر الوسطاء، وبلغة يغلب عليها الإشارات والإيحاءات.


ولم يتوقف سيل التصريحات والمواقف الايرانية المتهورة إلى أن حانت ساعة الحسم، وعلى إيران إنجاز ما وعدت به العالم كله، وعلى وجه الخصوص جمهور ما يسمى بـ «المقاومة»، وتنفذ كذلك ما توافقت عليه في العتمة مع الوسطاء.


ففي فجر يوم الأربعاء 8/1/2020 أطلقت إيران صواريخها على «قاعدة عين الأسد» الجوية العراقية التي تستضيف قوات أمريكية، انتقاماً لمقتل اللواء قاسم سليماني، فامتلأت شاشات التلفزة العالمية بصور وميض الإطلاق واستدعت وكالات الأنباء الشهيرة محلليها الاستراتيجيين لتغطية ما هو قادم لحظة بلحظة، وكأن القادم سيكون- كما تخيل الكثيرون- أهوال حرب لا تبقي ولا تذر.


فنزل جمهور المقاومة إلى الشوارع وارتفعت الأصوات بالتهليل والتكبير، وبالهتافات الحماسية، التي اشتعلت أكثر مع إعلان التلفزيون الإيراني أن هناك معلومات أولية عن مقتل 80 عسكرياً أمريكياً على الأقل إثر القصف.... ثمانون؟. نحتاج أكثر!. لا يشفي صدورنا إلا رؤية مئات الأمريكيين صرعى متفحمين، تحت لهيب الحمم القادمة من إيران.


هنا نادى منادي القوم:


وانتبهنا بعدما زال الرحيق     وأفقنا ليت أنّا لا نفيق


فسرعان ما بدأت تتكشف الحقائق لتفيد بأنه لا قتلى ولا جرحى في الضفة المستهدفة، وأن الصواريخ كانت ذكية بحيث تجنّبت الاقتراب من أي أمريكي «خلقه الله»، ويضاف إلى ذكائها دعاء «الصالحين منهم» بأن تكون نار إيران برداً وسلاماً على الأمريكان.


ثم تخرج تصريحات هادئة من واشنطن بأن الأمور بخير وهي على ما يرام، وربما كان سيخطئ ترامب ويقول: «الأمور سارت وفقاً لما تفاهمنا عليه» لولا أن تدارك نفسه.


هي المسرحية إذاً!. لكنها سيئة السيناريو رديئة الإخراج، كان الإيراني مضطراً إليها وليس الأمريكي...مسرحية أصابت الألوف المؤلّفة ممن بكوا سليماني كثيراً وهتفوا في بداية القصف أكثر، أصابتهم بالخيبة والذهول واهتزاز الثقة في أهم اختبار تمر به حكومة الملالي. حتى مرارة الخيبة كان يمكن تجرّعها لولا تتابع الأحداث توالياً، وكلها تحمل الأخبار السيئة، حيث أفيد بعيد العملية الإيرانية عن تحطم طائرة أكرانية بعيد إقلاعها من مطار طهران الرئيسي، وفق ما أعلنت هيئة الطيران المدني الإيرانية. وتم العثور على الصندوقين الأسودين للطائرة الأوكرانية 737. التي راح ضحيتها 176 راكباً من جنسيات مختلفة معظمهم إيرانيون، لكن رئيس هيئة الطيران المدني الإيرانية «علي عابد زادة» قال: "إيران لن تسلم الصندوق الأسود للطائرة الأوكرانية إلى شركة بوينغ المنتجة للطائرة". وحددت كييف أن الطائرة المنكوبة كانت تقل 82 إيرانياً و63 كندياً و3 بريطانيين و3 من ألمانيا و4 من أفغانستان و10 من السويد و2 من أوكرانيا، إضافة إلى الطاقم المتكون من 9 أوكرانيين، فيما قالت الخطوط الأوكرانية إن الطائرة التي تحطمت في طهران جديدة وتم فحصها قبل يومين.


انتظر العالم ما سيكون عليه الموقف الأمريكي وهل سترد أمريكا بعد العملية الإيرانية «الممسرحة»؟. وعلام ترد؟. حيث لم يصب جندي أو موظف أمريكي بأذى ؟. بل إن الأذى كل الأذى يصيب الإيرانيين كيفما تحركوا...في مراسم الدفن والتشييع وفي سقوط الطائرة ثم في الزلزال الذي ضرب مناطق في شمال إيران.. فهم يخسرون حتى وهم يثأرون، وقبل كل ذلك في حرص إيران على تجنب إصابة أي أمريكي، كما سرّب مصدر (رفض الكشف عن اسمه) بأن لديه معلومات لا تحليلات بأن «رماة الفرس» كانوا يتحرون الخوالي من الأرض فيستهدفونها فضلاً عن إخبارهم للقيادة العراقية بالعملية المزمعة ليخبروا بدورهم الأمريكان بذلك.


ثم أطل الرئيس الأمريكي واثق الخطوة يمشي ملكاً، يلقي خطابه بلا مقدمات!. معلناً أن إيران لا يمكن أن تملك السلاح النووي، وسوف نشدد الحصار عليها، وأنه لم يصب أحد من الأمريكيين بضرر، وأن على حلف الناتو تعزيز وجوده في الشرق الأوسط، وأن باب الحوار مفتوح لإيران.


حتى هذه الليلة ليلة الخميس 9/1/2020 لا يمكن اعتبار الأمور قد انتهت، لأن هذه الأحداث الجسام أصلاً حضرت في ظل أحداث جسام سبقتها، كالثورة اللبنانية والأخرى العراقية والثورة الإيرانية والحرب اليمنية والأحداث السورية والمستجدات الليبية.. وكل واحد منها مفتوح على احتمالات كثيرة.. لكن الذي يبدو أنه انتهى، هو نجاح «أمريكا الترامبية» بردع إيران عن أي مراهقات مقبلة تجاه أمريكا تحديداً.


كاتب وصحفي سوري


 

كاريكاتير

لن أترشح إلا إذا السوريين...

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!