الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • في سوريا.. أول دليل أثري مؤكد للحرب الكيميائية في التاريخ

في سوريا.. أول دليل أثري مؤكد للحرب الكيميائية في التاريخ
في سوريا.. أول دليل أثري مؤكد للحرب الكيميائية في التاريخ

بدأت أولى عمليات التنقيب في "دورا أوروبوس" عام 1920، عندما اكتشفت القوات البريطانية بقيادة النقيب "إم سي مورفي" المتمركزة في قرية "الصالحية" السورية، بالقرب من "دورا يوروبوس"، اكتشافاً مفاجئاً، كان عبارة عن عدد من اللوحات الجدارية القديمة التي كانت محفوظة بشكل جيد تحت جسر ترابي كبير، وقد أدركوا على الفور أهميتها وقيمتها الأثرية، ليتم عرضها على عالم الآثار الأمريكي "جيمس هنري برستد"، الذي كان يعمل في سوريا حينها.

أثار تحليل "بريستد" ونشره للوحات الجدارية اهتماماً دولياً واسعاً بالموقع وإدراكاً كبيراً لأهميته التاريخية.

وبدافع من هذه الاكتشافات الأولية، قررت "الأكاديمية الفرنسية للنقوش والحروف" المضي قدماً في رعاية أول تنقيب منهجي في "دورا-أوروبوس" في عام 1922، وبما أن "بريستد" لم يكن متاحاً للعمل كمدير ميداني للتنقيب، فقد تحولت الأكاديمية إلى وحدة خاصة كان فيها عالم الآثار البلجيكي والمؤرخ "فرانز كومونت".

استخدام الفرس للعناصر الكيميائية في الحروب

وفقاً للروايات اليونانية والرومانية، استخدم الفرس عناصر كيميائية في حروبهم في ثلاث مناسبات أساسية:

الأولى خلال حكم "خشايارشا الأول" (480-479 قبل الميلاد)، عندما استخدموا البترول في حربهم ضد الإغريق، والثانية، في عهد "مهرداد (ميثريداتس) السادس" (67 قبل الميلاد)، باستخدام العسل المسموم ضد قوات "بومبي الكبير"، أما المرة الثالثة فكانت في عهد "شابور الأول" (256 ق.م) ضد الرومان، وهو موضوع بحثنا هذا، وهي تعتبر أول حالة مؤكدة لاستخدام الحرب الكيميائية في التاريخ القديم.

 

صورة اثرية 

تقول المصادر الرومانية، إن الإمبراطور "غورديانوس الثالث" أرسل، في عام 242 م، خطاباً إلى مجلس الشيوخ لإخطارهم بأنه أزال تهديد ملوك فارس عن مدن "أنطاكية، كاراي، حرّان، ونصيبين" في سوريا.

وكمحاولة أخيرة للدفاع عن "دورا أوروبوس"، أعاد الرومان تحصين المدينة تحت قيادة الإمبراطور "فاليريان" تحسباً لأي هجوم فارسي محتمل. لكن الإمبراطور الفارسي "شابور الأول" الذي حكم "من 230 إلى 270 م "، استطاع هزيمة الرومان في سلسلة من المعارك، واستولى على "دورا أوروبوس" عام 256 م للمرة الثانية خلال فترة حكمه، ولم تنجح الهجمات المضادة الأخرى التي شنها الإمبراطور الروماني، فاليريان، خلال معركة الرها، ووقع أسيراً في قبضة الفرس عام 260 م، مما خلق اضطراباً كبيراً في الإمبراطورية الرومانية لكونه يعتبر الإمبراطور الروماني الوحيد الذي أمسك به أسيراً، وبقي كذلك في "بلاد فارس" حتى وفاته عام 264 م.

 الفرس استخدموا الحرب الكيميائية ضد الرومان في دورا أوروبوس

وقوع المدينة على الحدود الرومانية - الفارسية، وكذلك على مفترق طريق التجارة الرئيس بين الشرق والغرب، جعلها مركزاً لثقافات متعددة، وللسبب ذاته، تحولت المدينة إلى نقطة صراع مهمة بين "بلاد فارس وروما"، الذين لم يبخلوا الوسيلة للسيطرة عليها، وقد وقعت المدينة بالفعل، تحت سيطرة الإمبراطوريتين عدة مرات في فترات مختلفة خلال القرن الثالث بعد الميلاد.

أثناء عملية التنقيب التي كان يقوم بها عالم الآثار الفرنسي "روبرت دو ميسنيل دو بويسون" (1895-1986)، بالقرب من الجدار الغربي للمدينة، وقع فريقه البحثي على نفق عند البرج رقم 19، وبداخله 19 جندياً رومانياً، بالإضافة إلى جندي فارسي واحد، حيث تم التعرف عليهم من خلال ملابسهم ونظام تسلحهم، لكن ما أثار الباحثين أكثر هو وجود نفق آخر يرتفع عن الأول بنحو ثلاثة أمتار تقريباً.

وفقاً للباحث الفرنسي، فقد ظلّ الجزء العلوي "المتفحم" من الأنفاق، على حاله حتى بعد مرور نحو 1700 عام، وكذلك الأمر بالنسبة للجثث المتفحمة التي وجدت في النفق.

 

عثر في الموقع أيضاً على مادة زيتية هي "القار" أو "القطران"، وبعض البلورات الصفراء التي رجّحت على أنها "الكبريت"، والمادتان تعتبران من المواد الكيميائية الحارقة.

أشارت عملية إعادة التحليل لأرشيف الحفريات عام 2008 إلى أن الجنود الرومان قد تعرضوا للغاز عمداً من قبل المهاجمين، وعلى الرغم من عدم توفر نصّ تاريخي حول استخدام عناصر كيميائية أثناء محاولات الاستيلاء على "دورا-أوروبوس"، إلا أنّ البقايا الأثرية تروي القصة بوضوح.

كيف استخدم الفرس السلاح الكيميائي ضد الرومان؟

بعد الانسحاب الفارسي الأول وعودة المدينة إلى أيدي الرومان، حوالي 244 م، خضعت "دورا" لبرنامج ضخم من التعزيزات لتحصيناتها، بهدف الصمود أمام أي هجوم ساساني محتمل لاحقاً.

تركزت هذه التغييرات على طول ما يسمى بالجدار الصحراوي الهشّ، والذي يطل عبر سهل منبسط وجاف، في حين كانت الجوانب الأخرى من المدينة محمية بالوديان أو منحدرات الأنهار، على عكس الدفاعات الغربية التي افتقرت إلى أي خندق أو تحصين وقائي.

 

في الفترة ما بين 254-255، عزّز المدافعون الرومان بشكل كبير الجدار الغربي الهشّ ببناء كتلة من الطوب اللبن، شديدة الانحدار، على الجبهة، بالإضافة إلى سور ضخم في الجزء الخلفي والذي تم بناؤه على مراحل، مما يعكس التغييرات المتتالية في الخطة.

خلال الهجوم الثاني لشابور الأول، والذي حدث بعد نحو 14 عاماً من الهجوم الأول، وتحديداً في عام 256 م، حينها، كان تدمير سور المدينة هدفاً رئيساً للمهاجمين الذين سيمكنهم ذلك من دخول المدنية بسهولة، أو قد ينهار الجدار، ونتائج كلا الحالتين تصب في صالحهم. في المقابل، كان منع نجاح العدو، إحدى الاستراتيجيات الرئيسة للمدافعين، من خلال تدمير خنادقهم، وخاصة بعد أن اكتشف الرومان التكتيكات العسكرية لشابور الأول.

وعلى الرغم من أنه أصبح من السهل في الوقت الحاضر الكشف عن الأنشطة التي قام بها الإنسان تحت الأرض باستخدام أجهزة الموجات الصوتية، لكن تقنيات العصور القديمة كانت أبسط بكثير، رغم فعاليتها.

كان المدافعون يحفرون ثقوباً صغيرة ويملؤونها بالماء ويراقبون حركة المياه السطحية، فكان التركيز يتجه بالاتجاه الذي كانت المياه تنحدر إليه، ليحفروا ثقوباً أكثر بذلك الاتجاه حتى يتمكنوا من تحديد الموقع بدقة.

بعد أن لاحظ الرومان خطة الغزاة، خططوا لحفر فخ مضاد تحت حاجزهم المضاد للحصار، والذي يقع خلف سور المدينة مباشرة، على أمل اقتحام نفق العدو، فكان ذلك يتطلب منهم حفر نفق يقع على ارتفاع 3 أمتار فوق نفق الفرس لتكون لهم اليد المهيمنة.

تشير الأدلة الأثرية إلى أن هجوم الرومان المضاد فشل لصالح الفرس الذين استفادوا من عمل المدافعين من أجل تقدمهم، وفقاً لاكتشاف حديث للدكتور "سيمون جيمس".

فعلى ما يبدو أن الرومان قللوا من شأن الغزاة الفرس الذين كانوا أيضاً على دراية بتقنية الكشف بواسطة المياه واستطاعوا معرفة خطتهم، وهو ما ساعدهم على تطبيق خطة محكمة لم تدع للرومان أي مجال للفرار نهائياً.

كان الفرس قد وضعوا بعض "المواد السحرية" في نفقهم، وتراجعوا إلى الوراء وألقوا بالمواد في النفق، ومن ثم أشعلوا فيها النار.

وبالفعل، لقد نجح سحرهم، وحدث التحول المذهل للأحداث، سحب من الغازات السامة، كثيفة، حارة وخانقة انطلقت إلى النفق الروماني، وفقًا لباحثين من جامعة ليستر. فكانت هذه السحب كافية ليفقد الجنود وعيهم في ثوان ويموتوا في دقائق معدودة.

كان هناك ذعر وفوضى في النفق الصغير، ولم يمتلك الرومان أي وقت لإعادة التنظيم والهروب إلى الوراء، لقد كان ذلك بالنسبة لهم سحراً بكل معنى الكلمة، وهو ما استغله الفرس واستمروا في إرسال تلك "السحب السحرية" إلى أن توقفت الضوضاء في النفق العلوي، فدخلوه وقتلوا كل من بقي حيّاً.

كان الغزاة قادرين على صنع غازات خنق سحرية، بدا الأمر كما لو أنهم يأمرون الغاز المظلم بالتحرك لصالحهم باتجاه العدو، وبذلك، سقطت "دورا أوروبوس" في أيدي الفرس ولم يغب ذلك السحر عن الرومانيين لعصور طويلة.

أما بالنسبة لمصير الجندي الفارسي الذي مات في النفق ذاته، فهو غير واضح بشكل كامل. فقد يكون طعماً وضعوه في النفق المراد لتجربة الخطة وضمان نجاحها، أو ربما كانت وفاته نتيجة غير مقصودة.


تشكيل عناصر الحرب الكيميائية

تؤكد قمة الأنفاق والجثث المتفحمة التي تم العثور عليها المواد الكيميائية المتسارعة المرتبطة بالحريق، بما في ذلك استخدام الهيدروكربونات الزيتية.

العثور على القار، وهي مادة نفطية أساسها النفط (القار/ النفط الخام)، وبعض البلورات الصفراء التي يمكن أن تكون كبريتية، ويؤدي إشعال النار في هذه التركيبة إلى إطلاق سحب كثيفة داكنة من الأبخرة الساخنة المكونة من ثاني أكسيد الكربون وأول أكسيد الكربون وغاز ثاني أكسيد الكبريت، وهو ما يؤدي إلى خلق ما يشبه الجحيم.

تم ضخ الغازات الساخنة إلى الجانب الروماني من النفق حيث كان ارتفاعه 3 أمتار فوق الجانب الفارسي، وقد نتج عن ذلك ثنائي أكسيد الكبريت (SO2)، بالإضافة إلى العنصر الكاوي "حمض الكبريت" (H2SO3) المسبب لتضيق القصبات والوذمة الرئوية.

كان الاختناق والموت في مكان مغلق تحت الأرض أمراً لا مفر منه، وخاصة أن استجابة الإنسان سريعة لمثل هذه المواد، إذ يمكن لجسم الإنسان أن يمتصّ ما يصل إلى 90٪ من ثاني أكسيد الكبريت المستنشق، كما يعتبر التعرض لمستويات من 400 إلى 500 جزء في المليون مهددة للحياة.

هذا اللغز هو أول دليل أثري مؤكد لاستخدام عناصر الحرب الكيميائية في التاريخ.

مصادر:

تعود نظرية الحرب الكيميائية في أنفاق الحصار في دورا-يوروبوس إلى "سايمون جيمس" من جامعة ليستر بالمملكة المتحدة.

يستند العمود الفقري للمقال الحالي إلى أعماله بالإضافة إلى بعض الدراسات لعالم الآثار الفرنسي الراحل "روبرت دو ميسنيل دو بويسون"، ومراجعة حديثة قام بها "هينز وفوكس"، 2014، بالإضافة إلى دراسة لـ "رضا افشاري" نشرها في "مجلة آسيا والمحيط الهادئ لعلم السموم الطبية" عام 2018.

ليفانت – أغيد شيخو

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!