-
ملامح اقتصاد عالمي جديد ما بعد كورونا
في تعليقه على الأزمة العالميّة الخطيرة التي خلّفها انتشار وباء كورونا، قال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعروف إدغار موران: "إنّ إجراءات الحصار والعزل قد تساعدنا على البدء في إزالة السموم التي تعتري نمط حياتنا". اقتصاد عالمي جديد
من المؤكّد ظهور تغييرات جوهرية في تركيب وبنية النظام الاقتصادي العالمي بعد انحسار الوباء، وبعد دراسة وتحليل التأثيرات السلبية التي خلّفها في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ومع أنّ الاقتصاد العالمي يعاني من أزمات باتت شبه دورية، إلّا أنّ أزمة كورونا تبدو قاسية ومختلفة، ولا يمكن تجاوزها دون إجراء إصلاحات بنيوية جذرية في هيكلية الاقتصاد العالمي، وربما التحوّل لأنماط اقتصادية ذات توجهات أكثر إنسانية، أكثر نجاعة في التصدّي للأزمات البيئية والكوارث الطبيعية ومواجهة الأوبئة التي تهدّد الحياة البشرية.
تناولت الكثير من الأبحاث والدراسات إصلاح الاقتصاد الرأسمالي لتجنّب الأزمات المتكررة التي تواجهه، وبالمقابل غلب على العديد منها طابع إيديولوجي اشتراكي يساري ضدّ تغوّل الليبرالية وضدّ طغيان رأس المال على القيم الإنسانية، وفي كتابه اقتصاد القرن الواحد والعشرين، يرى الاقتصادي الفرنسي المعروف توماس بيكيتي: "إنّ إعادة توزيع الثروة هو السؤال الأكثر حيوية وجدلاً في هذه الأيام، لأنّ ديناميكية تراكم رأس المال الخاص تقود بشكل لا مفرّ منه إلى تركيز قوي دائم للثروة والسلطة وحصرها في أيدي فئة قليلة، وينسج بيكيتي هنا على غرار كتابات ماركس في القرن التاسع عشر.
جرى تطبيق إجراءات الحجر الصحي بشكل واسع، وجرى تطبيق العزل من الدول والمدن بغية الحدّ من الاختلاط لمنع تفشّي الوباء وأدّى ذلك لتعطيل الفعاليات الاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية، وشلل قطاعات التعليم والنقل والسياحة والصناعة والتجارة والخدمات وإغلاق الحدود، وأدّى إغلاق الكثير من المصانع والمتاجر لانهيار قياسي في قيمة الأسهم ومؤشرات البورصة وتهاوي أسعار النفط بشكل مريع وارتفاع مباشر في معدّلات البطالة حيث توقّعت منظمة الأمم المتحدة أن يفقد حوالي 25 مليون شخص وظائفهم بسبب الأزمة.
حسب الاقتصادي كريستيان غوليير فإن ما يحصل يكتب فصلاً جديداً في مفهوم الاقتصاد الكلّي، ويرى أنّه في تاريخ الأزمات الاقتصادية يحصل تراجع الطلب وانخفاض في الاستهلاك وتوقف الاستثمار، وبالتالي انخفاض كبير في عجلة الإنتاج، حيث يعمد الأغنياء لإيقاف الإنتاج بسبب إجراءات الحصار والإغلاق وإيقاف متاجر التموين. اقتصاد عالمي جديد
هناك حاجة لتوافر إمكانيات تقنيّة وطبيّة هائلة وتمويل ضخم لمواجهة الوباء وتداعياته الاقتصادية الاجتماعية الخطيرة، وقد سارعت الدول ذات الاقتصادات الكبيرة لرصد موازنات استثنائية لهذا الغرض، حيث أنشأت فرنسا صندوق خاص بقيمة 300 مليار يورو، منها 50 مليار لدعم الشركات الخاسرة والمتعثّرة، وأدّى ذلك لارتفاع الدين العام للدولة فوق 100% من الناتج القومي، كما خصّص البنك المركزي الأوروبي 750 مليار يورو لمواجهة أعباء الدين العام والخاص حتى نهاية العام، وعلى نفس المنوال نسجت أمريكا ودول أوروبا وكندا والصين ومجموعة دول العشرين.
بعيداً عن نظرية المؤامرة وراء انتشار الفيروس، تدور حرب اقتصادية شرسة متعددة الأطراف بين أمريكا والصين والاتحاد الأوروبي، وسيكون تأثير كورونا طويل الأجل على مستقبل الحياة البشرية ويستدعي تشكيل نظام اقتصادي عالمي جديد من المبكر التنبؤ به وإن كان يمكن توقّع بعض ملامحه.
ستدفع أزمة كورونا دول الغرب الرأسمالي إعادة النظر في برامج الرعاية الصحية والاجتماعية وإعادة تعزيز دور الدولة من جديد وقد اتّضح ضرر سياسات تقليص الانفاق على الخدمات العامة، حيث ظهر نقص حادّ في الكوادر الطبية المتخصّصة وغرف وتجهيزات الإنعاش والإسعاف السريع ومواد التعقيم والعقاقير الطبية، وقد أثبتت الصين رغم نظامها الشمولي قدرة أكبر على المواجهة.
برز تصريح لافت للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول إمكانية تأميم الشركات المتعثّرة أو المفلسة، وهذا توجّه جديد مغاير لسياسات الحكومة الفرنسية والتخلي عن توجهات الخصخصة نحو ملكية الدولة للمنشآت الحيوية والخدمات الأساسية.
ستفرض أزمة كورونا إجراء مراجعة شاملة في عمل الاقتصادات الكبرى، وقد يفضي ذلك تشكيل هوية جديدة تزاوج بين مسارات العولمة الشاملة والوطنية والتجمعات الإقليمية، كما تستدعي وضع ضوابط صارمة ناظمة للاستثمار في الأوراق المالية تمنع الانهيار المتكرّر مع كل أزمة طارئة، وقد يفتح ذلك الباب أمام التوجه نحو قطاعات إنتاجية لا ريعية.
في مواجهة الوباء ظهرت حالة من الضعف والتخبّط وعدم التعاون الفاعل في اتّخاذ إجراءات سريعة في إدارة الأزمة من قبل المنظمات الدولية والإقليمية وحتى الوطنية، ولا بدّ من تطوير عمل المنظمات الدولية ورفدها بالدعم والإمكانيات اللازمة لمواجهة كافة الكوارث التي تهدّد البشرية. اقتصاد عالمي جديد
لا تظهر نهاية واضحة أو قريبة لوباء كورونا، وهي تبدأ مع تراجع عدد الإصابات والوفيّات واعتماد علاج ولقاح فاعل، كما لا يمكن توقّع النتائج الكارثية التي سيخلّفها على كافة الأصعدة، وكما قال إدغار موران فإنّ العالم بالفعل بات بحاجة لتغيير جذري شامل ولكن بأيّ اتجاه يسير التغيير؟ وهل كان العالم يحتاج كارثة بهذا الحجم للوعي بأّن على الإنسان اكتشاف قوانين جديدة للعيش في هذا الكوكب. ليفانت
ليفانت - عماد غليون
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!