الوضع المظلم
الإثنين ٢٩ / أبريل / ٢٠٢٤
Logo
المهاجرون في الغرب.. وفوبيا الاندماج
رانيا حلاق

ضمّنا مقهىً صغيرٌ في محطة قطارات لندن الرئيسة، هو صديق قديم لعائلتي ويعيش في بريطانيا منذ حوالي ثلاثين عاماً. في حديثي معه عن الجاليات العربية المختلفة في انكلترا، اكتشفت معه عمق مشكلة اندماجها في المجتمع الإنكليزي، الكثيرون منهم عاشوا هنا عقوداً طويلة ولا يزالون عاجزين عن التحدث باللغة الانكليزية، سبب ذلك أنهم فضّلوا الانكفاء على أنفسهم ضمن جالية البلد الذي ينتمون إليه. يتسوّقون من المتاجر العربية ويتعالجون عند أطباء عرب، كلّ أصدقائهم من أهل بلدهم فقط، وهم حافظوا على عاداتهم وتقاليدهم دون تغيير يذكر. لم يحاولوا مسايرة تطور المجتمع الجديد الذي يحملون جنسيته. 


هذا الخيار في العيش قد يبرره البعض بأنه تعويض عن الحنين المتّقد لوطنهم المفقود، لكنه تبرير غير كافٍ عندما نرى نتائجه السلبية على صعد التعليم والثقافة والمساهمة في حركة التحضّر المتسارعة، إنك عندما تندمج في المجتمع المضيف فأنت تستفيد معارف جديدة كتعلّم لغتهم وعاداتهم والتعرف إلى تاريخهم الذي أصبح يعنيك مثلما يعنيهم، طالما اخترت جنسيتهم وتمتعت بما يتمتعون به من حقوق، ما يجعل عقلك حراً منفتحاً على آفاق واسعة لم تكن لتتخيلها.


رغم أن عقوداً قد مرّت على بدء حركة الهجرة الحديثة إلى الدول الغربية، إلا أن الجاليات المهاجرة ما تزال تواجه اتهاماً بالانعزال وعدم الرّغبة في الاندماج، لكنها تدافع عن نفسها، وتقول إنها تتعرض للتهميش بسبب أصولها المختلفة. أنت من اخترت العيش في هذا البلد، فكيف لعائلة عربية يدرس أبناؤها في المدارس الغربية ومع ذلك تمنعهم من الانخراط في مجتمع الغرب، وفي حال كان الوالدان بعيدين كلّ البعد عن هذا المجتمع، فإن الاولاد سيعيشون حالة مزدوجة بين مجتمع اهلهم بلغته وعاداته وتقاليده ومجتمع اصدقائهم المختلف تماماً. هنا يفقد الأبناء الشعور بالانتماء فلا هم عرب ولا غربيون وهذا سيعني لهم القلق وعدم التركيز على إنجاز طموحاتهم بصفاء وقوة.


كي نخلق هذا التوازن لابدّ أن نعلم أبناءنا أن حضارتنا وحضارة البلد المضيف هي بعض حضارة الإنسانية التي تهمهم كما تهم أبناء البلد الأصليين، وأعتقد أننا نخطئ عندما ندخل في عقولهم فكرة أننا ننتمي للحضارة الأصل والأهم. أعرف العديد من العائلات التي قرّرت العودة إلى وطنها عندما بلغ أبناؤها سن المراهقة بدافع الخوف عليهم من الانحدار الأخلاقي، وكأن هذه الدول بتطورّها وتقدّمها قائمة على مجتمعات "منحلّة أو كافرة" لأنها لا تتبع تعاليم دينهم، ولأنها مجتمعات لا تمانع في شرب الكحول وتؤمن بالحرية الجنسية بعد سن البلوغ.


هذه الحرية الشخصية التي يمنحها الغربي لأبنائه لممارسة حريّتهم في اتخاذ القرارات التي تخصهم وحدهم وتعني حياتهم ومستقبلهم، يرفضها العربي ويراها خاطئة فينزوي ضمن جاليته أو يرحل. النظرة الدّونية من العربي حيال مجتمع الغرب هي في الأصل مستقاةٌ من فهمٍ للدِّين اقتصر على مفهوم الحرام والحلال، ولكنّه في الوقت ذاته يبذل كلّ جهد ممكن للوصول إلى دول الغرب ليتمتّع بما توفّره له من حقوق إنسانية وقوانين تؤمّن له الحماية الإجتماعية والصحية والمعيشية، دون النظر إلى هويته ودينه ومعتقده. ننتقد الغرب ونرفض ثقافته لأنها لا تشبهنا، ولكنّنا في الوقت ذاته نتمتع بكافة الميزات التي توفرها لنا تلك الثقافة من حياة حرة كريمة آمنة.  


عشرات الآلاف من العرب صاروا علماء وأساتذة جامعات ومهندسين وأطباء مشهورين بفضل وجودهم ودراستهم في مدارس وجامعات ومراكز بحوث الغرب. والبعض منهم جلس على مقاعد مجلس النواب والشيوخ أو أصبح وزيراً. لا يمكن للمنطق أن يقبل فكرة تخلّف الغرب أخلاقياً حتى من خلال ميراثنا الثقافي.


 يقول الشاعر العربي أحمد شوقي


(إنما الأمم الأخلاق ما بقيت                  فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا)


وعلى ذلك فإن مفهوم الأخلاق عند الغربيين مختلف عن مفهومنا له، وعلينا أن نحترم خيارهم الأخلاقي طالما احترموا عقيدتنا ومنحونا الحرية الكاملة لممارستها.


الكاتبة, رانيا حلاق 

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!