-
الموقف التركي من الثورة السورية
موقف تركيا الإنساني من مأساة الشعب السوري ثابت ومشهود له لم يتغير ، فهي متعاطفة وتقدم ما تستطيع من مساعدات وتسهيلات إنسانية ، بالمقارنة مع دول عربية جارة فإن اللاجئ لتركيا يتمتع بوضع أفضل منها جميعاً ، لكن هذا التعاطف الإنساني لا ينعكس في الموقف السياسي التركي ، الذي يختلف وأحياناً يتناقض مع موقفها الإنساني، مع بداية الثورة بدا موقف تركيا الرسمي من الثورة متردداً ، وحافظت على نوع من التواصل مع النظام الذي كانت تربطه علاقات قوية معها قبل الثورة ، لكن إفراط النظام في القمع وحماسة المواقف الدولية دفع بالنظام التركي لتغيير موقفه وتبني مطالب الثورة اعتباراً من بداية عام 2012 ( بضرورة اسقاط النظام المجرم ومحاسبته ، وبناء سورية الحرة الديموقراطية ) وهي الفترة الذهبية التي شعرت فيها المعارضة السياسية أن حضنها الأم هو تركيا التي فتحت أبوابها وقدمت ما يتوفر من تسهيلات.
لكن مع قرار إدارة أوباما القيادة من الخلف ، وتوصية المخابرات البريطانية بدعم حزب الإخوان لقيادة الربيع العربي الذي وصفته بأنه إسلامي ، ووصفت الإخوان بأنهم معتدلون ومعروفون لديها ، وجدت الدول العربية الفرصة مناسبة لأسلمة الثورة ( لخوفهم من انتقال عدوى الديموقراطية لشعوبهم ) ، ووجدت تركيا الغطاء لتركيز دعمها على جماعة الإخوان المقربين منها بسبب عداء الفكر القومي العربي لها، في هذه الفترة نمت المنظمات الجهادية بشكل سرطاني على حساب الجيش الثوري التطوعي ( الحر ) واستبعد الكثيرون بتهمة أصولهم البعثية والعلمانية ، وهيمن تنظيم الإخوان سياسياً على تمثيل المعارضة والعمل الإغاثي وتوريد السلاح وتوزيع المال ، واستغلت ذلك المناخ قوى أقليمية ( حلف الممانعة ) للدفع بداعش والقاعدة ومنظمات إرهابية أخرى لابتلاع المشهد ، تمهيداً للقضاء نهائياً على الثورة تحت ذريعة محاربة الإرهاب ... حتى تلك الفترة لم تكن تركيا بعيدة عن دعم المجاهدين ومن دون تمييز ، بسبب اعتمادها كلياً على وكيلها الحصري (تنظيم الإخوان السوري في الخارج )، الذي ضللها وخدعها مرات ومرات وقاد الثورة نحو الفشل.
مع تنامي داعش السرطاني وتشكيل الولايات المتحدة حلفها لمحاربة الإرهاب ، رفضت تركيا المشاركة فيه ، وهذا خطأ جسيم ثاني لو لم ترتكبه ، لكانت اليوم تملك معظم أوراق الحل في سوريا ، فدعمت أمريكا ميليشيات كردية مسلحة محلية نظمت نفسها تحت شعار حماية الشعب ( من داعش ) ، وهي بالأصل منظمات عسكرية ماركسية حليفة منذ عقود لروسيا وللنظام في دمشق ومارست الإرهاب ضد تركيا، وامتنعت أمريكا عن دعم أي فصيل عربي لمحاربة داعش بحجة عدم الثقة ، التي بررتها تجربتين فاشلتين على الأقل . وهكذا انتصر الكرد الماركسيون على الدولة الإسلامية (داعش) في سورية ، وتحولوا لشريك أمريكا الوحيد في شمال وشرق سورية ، وهنا تعاظمت أحلامهم القومية وانتهزوا الفرصة لمحاولة إقامة دولتهم (الحلم) على أنقاض داعش والمكون العربي الذين ألصقت بهم تهمة الإرهاب . وفرضت قسد نفوذها على ثلث سورية تقريباً بدعم أمريكي عسكري ومادي كبير . وباشرت في إقامة دولتها هناك ، وهو ما ساهم في تغيير موقف تركيا من الثورة والنظام معاً.
شعرت تركيا بالخطر الوجودي عليها بالنظر لتداخل القضية الكردية بين سورية وتركيا ، ( معظم أكراد الجزيرة قد سكنوها بعد أن هاجروا من تركيا في النصف الأول من القرن الماضي ) وبالنظر لتوتر علاقاتها مع أمريكا ومع روسيا لم تكن تركيا قادرة على فعل شيء ، خاصة بعد اسقاط الطائرة الروسية التي كانت تستهدف قرى التركمان في الشمال . وبعد الانقلاب الفاشل لقادة من الجيش التركي اضطرت تركيا للانخراط في المسار الروسي الإيراني الأقل خطراً على نظامها من الحليف الأمريكي ، فالغرب يريد تغيير النظام في تركيا ، بينما روسيا وايران يريدون تغيير سياساته الخارجية خاصة تجاه النظام في سورية ، وهكذا ساهمت تركيا بمسار الأستانة ثم سوتشي ، ودفعت بالمعارضة المحتضنة عندها للسير فيه مستفيدة من أنانيتها وفسادها ، وبموجبه أجرت مقايضات كبرى على حساب الثورة مكنتها من وضع قدمها في شمال حلب ( درع الفرات) ثم في عفرين ( غصن الزيتون ) ثم الآن في الجزيرة (نبع السلام) التي ستمتد بشكل متدرج لتشمل 32 كم عمقاً على طول الحدود بين سورية وتركيا ، وتصبح منطقة نفوذ تركي كامل إذا لم يحدث أحد أمرين :
1- انجاز تسوية سياسية ، وقيام هيئة حكم انتقالي تحفظ وحدة سورية وتمنع قيام كيان كردي ، وهذا ما يزال بعيد الاحتمال بسبب هزيمة المعارضة عسكرياً ، وتعنت النظام ومن ورائه روسيا وإيران ، وعدم وجود ارادة غربية لاستخدام القوة والاكتفاء فقط بالضغوط الاقتصادية .
2- سيطرة النظام بالكامل على سورية ومنع قيام كيان كردي بالتفاهم مع تركيا ، وهذا أيضاً غير مرجح حتى الآن بالنظر لرفض الشعب السوري ، وتعمد النظام افتعال الخلافات مع تركيا ... والتي منها أخيراً التهجم من قبل الأسد على أردوغان شخصياً ، والذي أثار انزعاج روسيا ، مما يوحي بأنه نصيحة إيرانية للنظام الفاقد للعقل والسيادة ، ومع ذلك لم تنقطع المحاولات الروسية لجمع تركيا والنظام على طاولة التفاهمات، فلهما مصلحة مشتركة بالتفاهم لإخراج أمريكا من حقول النفط ومعها من تبقى من قسد.
وطالما أن أحد هذين الأمرين لن يحدث في الأفق المنظور على الأقل ، فإن تركيا ستسير بسياسة القضم في المنطقة المحددة شمال سوريا ، وسوف تباشر بإحداث تغيير ديموغرافي غير قابل للعودة فيها، بضخ مليوني لاجئ على الأقل في المنطقة الآمنة ، وتأمين ظروف الحياة الاقتصادية اللازمة لاستقرارهم النهائي في هذه المنطقة الغنية ، لكن ذلك لن يمنع النظام من محاولة احتلال ادلب أو أقسام منها في المرحلة الأولى ، وتهجير سكانها نحو المنطقة الآمنة التركية التي سترحب بهم طبعاً ، ولن يمنع إيران ولا روسيا من استكمال عمليات التغيير الديموغرافي في مناطق سيطرتهم ( الساحل ، والقلمون ) ، وترحيل المزيد والمزيد من العرب السنة للشمال المحاذي لتركيا ... في سيناريو كارثي يخدم مصالح مسار سوتشي ويقوض وجود سورية نهائياً.
في الخلاصة تركيا سياسياً ( بعكس إنسانياً كما نوهنا في البداية ) لم تؤيد مطالب الشعب السوري إلا فترة زمنية محدودة 2012 – 2013 وذلك اعلامياً فقط ، لأنها في ذات الفترة كانت تساهم في أسلمة الثورة ، وتساهم في تشويه تمثيلها ومنع قيام قيادة فعلية لها، واستبدالها بنخب انتهازية مطيعة لها ولبقية الدول المتدخلة ... تجسد ذلك في صيغة المجلس الوطني ثم الائتلاف قبل التوسعة وبعدها ، ثم في تأييد مسار جنيف بداية عام 2014 مع أنه بوابة لشرعنة بقاء نظام الأسد واعتباره طرفاً في الحل، وطعنة للثورة في صميمها ( بتحويل الخلاف مع نظام الأسد كمجرم يقتل شعبه ، لصراع سياسي بين طرفين ) ، ثم مع فشل جنيف دعمت وشجعت مسار الأستانة الذي من خلاله تم سحق ثورة الشعب وتسليم المناطق المحررة تباعاً عبر استراتيجية خفض التصعيد التي تبنتها ودعمتها ، والتي انتهت بمكاسب كبيرة جداً للنظام وايران وروسيا ، ومكاسب هزيلة لتركيا التي تقلصت أهدافها في سورية لمجرد منع قيام كيان كردي بجوارها . وأصبحت مستعدة للذهاب بعيداً مع النظام إذا ضمن لها ذلك ، وأخيراً ساهمت تركيا أيضاً في دعم مسار الهيئة الدستورية ، الذي استبعد منه المكون الكردي بتفاهم مع روسيا التي استبعدت عملياً كل حاضنة الثورة ، والذي يخطط لاعادة الشرعية لشخص الأسد ونظامه عبر لعبة انتخابات تشريعية ورئاسية حرة يفوز فيها حتماً.
بقبولها بقاء الأسد وإعطاءه الشرعية من جديد تكون تركيا قد تحولت من صديق للثورة لعدو لها ، فعين تركيا لم تعد على الثورة السورية ، بل على أمنها القومي فقط ، و في حال فشل احتمال بقاء الأسد رئيساً يحكم سوريا ، سيكون تقسيم وتقاسم سورية هو السيناريو البديل الذي تساهم فيه تركيا مع روسيا وايران ، وهذا أيضاً خارج مصلحة الثورة والوطن السوري.
ولكي لا تكون تركيا صديقة إنسانياً فقط وعدوة سياسياً ، يجب على السوريين الثوار والوطنيين استعادة زمام أمورهم ، وبناء موقف وطني مستقل عن مصالح الدول ، وهذا يتطلب أولا غسيل دم الثورة من خبز أعدائها ، والاطاحة بكل الطفيليات التي شوهت هذه الثورة . عندها قد تجبر الدول على إعادة النظر في سلوكها عندما تجد في ثورة الشعب شريكاً يمكن الاعتماد عليه ، لكن بغير ذلك ، أي بانتظار الدول أن تقوم بإصلاح الثورة ، فإننا سنشهد المزيد من الخراب والتبعية والاستسلام للمجرمين والمحتلين ، والمزيد من تحول الأصدقاء لأعداء.
مشكلة تركيا أنها تريد حل القضية الكردية بطريق القوة ، وهي تستخدم الإرهاب الذي مارسه حزب الب ك ك كذريعة ، لكنها لا تدرك أن الإرهاب هو رد فعل الضعيف على غطرسة القوي ، فهو عنف بشع وشنيع ولكنه ترجيع للبشاعة والشناعة التي يمارسها الطرف الآخر أيضاً ، ولا تدرك أن تجفيف مصادره لا يكون بالاحتلال والتهجير ، بل بمعالجة الأسباب والبحث عن حلول توافقية وتخفيض حدة الحقد القومي والعنف المتبادل ، فنبع السلام لا يتدفق بقوة الجيوش ، بل بقوة الحق والقيم الإنسانية والتسامح القومي . لأنه حتى لو فرضت تركيا بالقوة سلطتها على 30 كم ، فماذا ستكون عليه الحال في المناطق الأخرى ؟ هل هي غير مؤثرة على الأمن القومي التركي ، هل نقل تركيا لحدودها مسافة 32 كم جنوباً يلغي هذه الحدود ، أما أن هذه خطوة في طريق تقسيم سورية وحذفها من الخارطة ؟.
سؤال يسأله بإلحاح السوريون في ادلب الذين هم اليوم تحت قصف النظام وروسيا الوحشي ، في حين الطرف الضامن يلوذ بالصمت ولا يتكلم ، وجيشهم الوطني يقاتل في مكان آخر بالتعاون معه !!! يقول السوريون الذين يدخلون عامه العاشر تحت القصف ماذا نفعل هل ننتظر نصرة تركيا الضامنة وجيشنا الوطني ، أم يتحتم علينا أن نهاجر مرة أخرى إلى منطقتهم الآمنة ؟
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!