-
الوجود والثقافة والمعرفة
الرابطةُ الوجوديةُ بين الظواهرِ الثقافية ومصادرِ المعرفة تُمثِّل منظومةً اجتماعية حاضنة للتفاعلات الرمزية المُسيطرة على علاقة الفرد بِنَفْسِه وبيئته ومُجتمعه. والتفاعلاتُ الرمزيةُ جَوْهَرٌ أخلاقي مُتجانِس، ونَسِيجٌ مُتشابِك مِن الصُّوَرِ الذهنية والأحداثِ الواقعية، يُؤَدِّي إلى إنتاج آلِيَّات لُغوية قائمة على تأويلِ تفاصيل الواقع المُعاش، وتفكيكِ أدوات الهَيمنة السُّلْطَوِيَّة على الوقائع التاريخية، واستنباطِ المعاني الكامنة في السلوكياتِ الفردية والمصالحِ الجماعية، وصناعةِ عوالم فكرية قادرة على صهر الماضي والحاضر والمُستقبَل في بَوْتقة واحدة، وفتحِ الزمن على جميع التفسيرات للمَعْنَى الحَاكمِ على السِّيَاق الاجتماعي، والمَحكومِ بطبيعة السُّلوك الإنساني، والمُتَحَكِّمِ بشروط إنتاج المعرفة في العناصر التاريخية المُحيطة بشخصية الفرد الإنسانية، باعتبارها كِيَاناً حياتيّاً مركزيًّا، وكَينونةً لُغوية مُتجدِّدة.
وإذا كانَ التاريخُ -كَوَعْيٍ خَلاصِي وإدراكٍ رُؤْيَوِي وإرادةٍ إنسانية- تَوليدًا مُستمرًّا لفلسفة السُّلطة في المعرفة حِسِّيًّا ومَعنويًّا، فإنَّ اللغةَ -كسُلوكٍ مُجتمعي ومَضمونٍ إبداعي ومشروعٍ تَحَرُّري- إعادةُ صناعةٍ للنَّوَاة الأساسية لِهُوِيَّةِ المُجتمع روحيًّا وماديّاً. وعندما يتحرَّك التاريخُ باتِّجاه اللغة، فإنَّ تفاصيل الحياة المَلموسة تُصبح مَركزًا مُتَجَذِّرًا يَستعيد الهوامشَ، ومنهجًا عقلانيًّا يُحرِّر السِّيَاقَ الاجتماعي مِن الكَبْت، وزمنًا مُتَشَعِّبًا يُعِيد العناصرَ المنسيَّة إلى ذاكرة المجتمع، بِوَصْفِهَا فِعْلًا وفاعليَّةً وتَفَاعُلًا. وعندما تتحرَّك اللغةُ باتِّجاه التاريخ، فإنَّ تعقيدات المشاعر الإنسانية تُصبح جَوْهَرًا فلسفيًّا يُولِّد الأسئلةَ المصيرية في التُّرَاث، ومنظومةً معرفية تُكرِّس مركزيةَ الذات في الذكريات، ومَرجعيةً رمزية تُحلِّل الدَّوْرَ الحضاري للمنطقِ اللغوي والعقلِ التاريخي.
الوجودُ صِناعةٌ مُستمرة للخِبرات العملية، والثقافةُ إنتاجٌ دائم للأسئلة المصيرية، والمعرفةُ تشييدٌ مُتواصِل للبناء الاجتماعي. وهذه الأركانُ الثلاثة (الوجود والثقافة والمعرفة)، تُمثِّل نِظَامًا مِحوريًّا لا يَتَعالى على التاريخ، ولا يُقِيم قَطِيعةً مع أنساقه، وإنَّما يُؤَسِّس مناهجَ اجتماعية للكشف عن الشروط الضرورية لتوظيف الأفكار الإبداعية في عملية تفسير مصادر المعرفة، من أجل دَمْجها معَ الآلِيَّات اللغوية التي تُسَاعِد العقلَ الجَمْعي على تحويل الوَعْي الحضاري إلى تاريخ مُشْتَرَك بين مَاهِيَّةِ الوُجود الحَي والحُر (طبيعة الفردِ وهُوِيَّة المُجتمع) ومَاهِيَّةِ النشاط الواقعي والعَقْلي (دِينَامِيَّة الحياةِ اليومية والصَّيرورة الزمنية المكانية). وإذا كانت الظُّرُوفُ المعيشية تُؤَثِّر في تراكيبِ الهُوِيَّةِ والماهيَّةِ سَلْبًا وإيجابًا، فإنَّ العقل الجَمْعي يُؤَثِّر في تفاصيل الحياة اليومية، ويَستطيع مَنْحَ الشرعية لها أوْ نَزْعها عَنها. والامتحانُ الحقيقي لا يَكْمُن في قُدرة الفرد على تغيير مُجتمعه، وإنَّما يَكْمُن في قُدرة الفرد على تغيير نَفْسِه، مِن أجل إعادة بناء مُجتمعه، باعتباره هُوِيَّةً وُجوديةً قائمةً بذاتها، ومُتَفَاعِلةً معَ العناصر المُحيطة بها، ومُتَجَانِسَةً على صَعيد البُنية التحتية والبُنية الفَوقية، ومُنْدَمِجَةً معَ عملية تَحويل الظواهرِ الثقافية ومصادرِ المعرفة مِن الكِيَان إلى الكَينونة، ومِن الذات إلى الطبيعة، ومِن النظرية إلى التطبيق. والمُجتمعُ لَيْسَ مرحلةً زمنيةً عابرةً، وإنَّما هو زمنٌ مُتَجَدِّدٌ ومُتَكَاثِرٌ يَلِدُ نَفْسَه بِنَفْسِه، لذلك كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ حاضنةً للأزمنة المُختلفة. وكما أنَّ الروابطَ بين الأشياء أَهَمُّ مِن الأشياء ذاتها، كذلك العلاقات بين الأزمنة أَهَمُّ مِن الأزمنة ذاتها.
الثقافةُ تُطهِّر الوُجودَ مِن الوَعْي الزائف، والمعرفةُ تُنقِّي الوُجودَ مِن الإدراك الوهمي، مِمَّا يُؤَدِّي إلى مَنْعِ العلاقات الاجتماعية مِن إنتاج ذاتها ضِمْن المُسَلَّمَاتِ الافتراضية المُغْرِضَة، والمصالحِ الشخصية الضَّيقة. وكُلُّ تَطهيرٍ للوُجود ثقافيًّا ومعرفيًّا يُؤَدِّي –بالضَّرورة- إلى تَطَهُّر في العلاقات الاجتماعية شكلًا ومُحتوى، وهذه العمليةُ لا تَقُوم على الآلِيَّة الميكانيكية، بَلْ تقوم على القَصْدِيَّة الواعية، التي تَستطيع تحريرَ الفرد مِن المَأزِق الوجودي في بيئةٍ مُعقَّدة وعَالَمٍ مُركَّب. والمأزقُ الوجودي هو النتيجة الحتمية لِخَوْفِ الفرد مِن نَفْسِه ومُستقبَله، وعدمِ رِضَاه عن أدائه الحياتي. وهذا يَعْني انفصالَ الفِعْل الاجتماعي عن فاعليته المعرفية، فَتُصبح حياةُ الفردِ حركةً مَحصورةً بين الحُدود الزمنية والمكانية بلا أثر ولا تأثير، وتُصبح السُّلطةُ الاعتباريةُ للفرد مُجرَّد دَوَرَان في حَلْقَة مُفْرَغة، وعِندئذ يَعْجِز عن الانطلاق مِن تغيير نَفْسِه إلى تغيير مُجتمعه. لذلك، يجب على الفرد -إذا أرادَ أن يَكُون فاعلًا في الأحداث اليومية- أن يُحَوِّل عَقْلَه إلى أداة لصناعة المفاهيم الجديدة، التي تَقْدِر على توليدِ المَعْنَى لا نَسْخِه، وإبداعِ المفاهيم لا تقليدِها، ومُواجهةِ الواقع لا الهُروب مِنه.
ليفانت - إبراهيم أبو عواد
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!