الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
بانتظار شاهدٍ لن يأتي
بانتظار شاهدٍ لن يأتي

المعتقلات السوريات وجعٌ وألمٌ يقضّ مضاجع السوريين كافة, ويعوّل ذلك على اعتبار أنّ المرأة في المجتمع السوري تملك خصوصية محافظة، تخاف عليها من التعرض للإيذاءات الجسدية والنفسية من قبل عناصر النظام، وفي معرض حديثنا عن قصص الاعتقال التعسفي للنساء، يذهب بنا وحي ذاكرة الألم نحو الجنوب السوري، حيثما تستوطن امرأة رفعت صوتها ضد عناصر نظام الأسد الأمنية، امرأة جمعت أبناءها باسمها الصلب... درعا، الشعلة الأولى للثورة السورية، على تلك الأرض بدأت النساء الهتاف بالحرية، غصّت سجون النظام بهن، فكان لها النصيب الأكبر عن باقي المدن السورية حتى بالاعتقال، لكن النظام الاستبدادي الوحشي لم يفرّق يوماً بين ظالم ومظلوم، فما جرمها إلا أنها ابنة حوران وزوجة أحد الناشطين في مدينة درعا، هكذا تبدأ القصة لإحدى نسوة حوران اللائي يقطن اليوم في عالم السجون المظلم.


(ناجيّة) اعتقلت على أحد حواجز مدينة درعا منتصف العام 2012، وفي حوزتها حاسوب زوجها المحمول الذي قاموا بتفتيشه، ومن ثم اقتادها العناصر إلى فرع الأمن العسكري للتحقيق معها، بعد أن شاهدوا في الحاسوب صوراً لزوجها مع إحدى الكتائب، وبعض الصور والفيديوهات التي توثق جرائم وانتهاكات النظام في مدينة درعا.


أخبرتهم أن الحاسوب لزوجها ولا تعلم ما بداخله، وأنها كانت ذاهبة لبيعه، لكن الأمن لم يصدق روايتها. تعرضت السيدة الحورانية للضرب والتعذيب من قبل عناصر الفرع كي تخبر عن مكان زوجها، وأسماء الأشخاص المدرجة صورهم مع زوجها لكن دون جدوى، وبعد أسبوعين تم تحويل (ناجيّة) إلى فرع الأمن العسكري في دمشق 215، الملقب بفرع الموت.


وفي تلك الأثناء اعتقلت إحدى النساء اللواتي كن يعملن مع تلك الكتيبة الموجود فيها زوجها، وفي تدرج سريع للأحداث، قام النظام بعد ذلك بنصب كمين واعتقل على إثره، قسماً كبيراً من عناصر الكتيبة، وتم تحويلهم بشكل مباشر من فرع الأمن العسكري في درعا إلى فرع الأمن العسكري في دمشق فرع 215.


هناك أثناء التحقيق، أخبر عناصر الأمن (ناجيّة) بأن زوجها اعتقل مع أصحابه وأنه اعترف بقيام زوجته ببعض النشاطات مع تلك الكتيبة، وذلك لتوريطها بأكثر ما يمكن من التهم، إلا أنها أصرت على إنكار أية علاقة لها بالحاسوب أو بعمل زوجها، فهي لم تصدق اعتقالهم لزوجها إلا بعد مدة، حين سمعت صوت السجان ينادي باسمه هو ورفاقه إلى التحقيق.


حُوّلت الشابة الى سجن عدرا المركزي بعد حوالي شهرين، ليبقى زوجها الشاهد الوحيد على عدم تورطها داخل الفرع، بقيت في قسم الإيداع (جناح الإرهاب) حوالي الثلاثة أشهر قبل أن تعرض على القضاء، وهناك قام القاضي بتوقيفها لسماع الشاهد والذي هو زوجها، بأنه لا علاقة لها بالحاسوب وما بداخله، وتأجيل جلستها لحين حضوره، عادت السيدة إلى قسم الإيقاف بانتظار أن يُحضروا زوجها للشهادة، لكن في كل جلسة في القضاء كان الرد دائماً "لم يحضر الشاهد".


بعد اختفاء السيدة بأيام نتيجة الاعتقال وعدم معرفة أهلها بمكانها، أخبرهم أحد الضباط من أقربائهم أنه تم اعتقالها وتحويلها إلى دمشق، ليقوم شقيقها بالسفر إلى هناك والبحث عنها، وأثناء قيامه بالسؤال عن شقيقته اعتقل من قبل أحد الأفرع الأمنية في دمشق، لتصبح مصيبة الأهل أكبر بفقدان الاثنين، إلى أن علمت العائلة بتحويل أبنائها إلى سجن عدرا المركزي الذي يقومون بزيارته كل أسبوع، متنقلين ما بين سجن الرجال وسجن النساء لزيارتهم. لم يكن لأخ المعتقلة الحورانية أي ذنب سوى أنه أراد البحث عن شقيقته، كان مصيره أن حكم عليه بالسجن عشر سنوات، بتهمة الإرهاب التي يكون قد اعترف بها تحت الضرب والتعذيب الوحشي الذي يستخدمه النظام أثناء التحقيق، ويجعل الولد أحياناً يعترف على أبيه... لتبقى (ناجيّة) داخل السجن وألمها يزيد أكثر وأكثر منتظرة شهادة الزوج الذي هو المنقذ الوحيد لقضيتها، الزوج الذي خرج من السجن مع العديد من أبناء درعا، في مبادلة خاصة لإحدى الفصائل مع النظام السوري، قبل أن يستدعيه القاضي للشهادة، ومن ثم سافر للأردن بعد خروجه خوفاً من اعتقال آخر من قبل هذا النظام الذي يلاحق كل معتقل خرج في التبادل.


أعوام وما تزال (ناجيّة) معتقلة داخل السجون دون أي ذنب، بانتظار شاهد لن يأتي أبداً للشهادة، وأخ دفع ثمن البحث عن شقيقته عشر سنوات من حريته حُكم بها بحجة تورطه بأعمال إرهابية.

تعيش السيدة داخل السجن بحالة نفسية سيئة جداً أفقدتها صوابها، خصوصاً بعد أن تودع كل مرة صديقة لها قد تمت مبادلتها أو إخلاء سبيلها، منذ أن ودعتها قبل خروجي من السجن، وأنا أتابع أخبارها كما البقية، وأعلم أن حالها يزداد وجعاً، وهي على يقين أن هذا النظام والقضاء الحاكم فيه لا ضابط يحكمه، فهل من المعقول أن يطلق سراح شاهد هو الفصل الوحيد في قضية زوجته قبل أن يطلب للشهادة؟! وإلى متى ستبقى تلك السيدة تنظر شاهداً قد غادر البلاد ولن يأتي يوماً، لأن مصيره سيكون الاعتقال مرة أخرى، وقد لا يحظى بمبادلة ثانية تحرره.


إن قصة تلك السيدة هي غيض من فيض، وقصة من بين آلاف قصص الظلم التي تعيشها المعتقلات السوريات داخل سجون النظام، اللواتي سيأتي يوم وتشرق عليهن شمس الحرية كما أشرقت على من خرجن قبل.



ياسمينة بنشي – صحفية 

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!