-
تشيّع سياسي للمسيحيين، والاستهداف المباشر لثقافة السلام المشرقي
د. سميرة مبيض
عقد من الحرب، هو كما كل حدث يؤثر بقوة في المحيط الاجتماعي للإنسان، حيث تعيد سنوات الصراع الحالية في سوريا طرح مسألة الهوية والانتماء، بحكم كونها صفات ديناميكية تتفاعل باستمرار مع المحيط مرتبطة بدورها بخمسة عقود من القمع كانت أهم سماته تغييب الهويات الطبيعية المشكلة بمجملها للهوية السورية واقحام هويات تمكن عرش الاستبداد القائم.
ها هي اليوم منتجات ما سبق تتجلى في اجتراف يصيب الهوية المسيحية على كافة الصعد لأهداف سياسية، وليس أولها مشاركة شباب مسيحي في تظاهرات دينية تعود للمذهب الاسلامي الشيعي في يوم عاشوراء والتي تحيي فيها هذه الطائفة ذكرى موت أحد رموزها التاريخية قبل ما يزيد عن ألف وثلاثمئة عام.
يمكننا من رصد هذه الظاهرة الاضاءة على النقاط التالية:
• لا تمتلك الرموز التاريخية للمذهب الاسلامي الشيعي أو العلوي أي مرتكز أو قيمة روحانية أو معنوية في الدين المسيحي، بمختلف طوائفه، فالديانة المسيحية ترتكز بشكل رئيسي على شخص المسيح ورسله والقديسين والقديسات ومن ثم مرجعيات روحية رسمية، ليس في ذلك تفاضلية بين الأديان بل بحكم الأقدمية الزمنية للديانة المسيحية. وعليه فقد دأب المروجون للمذهب الشيعي في الاوساط المسيحية على تقديم صورة رموزهم التاريخية بشكل بصري مقرّب من صور المسيح كما تظهر في الايقونات والرسومات المعتمدة وعمدوا باستمرار على دمج شخصيات رمزية تاريخية من معتقداتهم بشخص المسيح فنراهم يدعون في الاوساط الشعبية والقرى والجلسات المختلطة مع المسيحيين أن على ابن أبي طالب والمسيح واحد لكن ذلك لم يكن خطاباً رسمياً وبقي ضمن أُطر العامة من الناس.
• . المستحدث اليوم هو ظهور رسمي لعمليات نشر التشيّع السياسي هذه بين صفوف المسيحيين في كلا من سوريا، لبنان والعراق. الدول الثلاث التي تعاني من وطأة الاجتياح الايراني، عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. فقد تعمدت المرجعيات الإعلامية الشيعية إظهار صور شبان يضعون الصليب على رقابهم كمشاركين في احتفالات عاشوراء في أيلول لعام ٢٠١٩، بغض النظر إن كان هؤلاء مسيحيون أم لا فإن الطرح بحد ذاته يستحق التوقف عنده باعتباره يمثل إعلاناً متقدماً عن نيّات مبطنة. لم يقتصر الأمر على صور الشبان في جلسة احتفالات شيعية بل تجاوزها إلى طرح خطاب على لسان المطران السرياني صليبا، في نفس المناسبة لمدح الحسين ابن علي، ووصفه بأنه "جوهرة أرسلها الله من السماء". بعيداً عن غطاء تقديس يُمنح خارج إطار الديانة المسيحية، فإن مثل هذا الخطاب يوجه لإيجاد تقارب سياسي اجتماعي بين الطائفتين الشيعية والمسيحية السريانية، من قبل المطران السرياني ابن الجزيرة السورية والذي يمكننا لحظه أيضاً من زاوية خلق انقسام مسيحي عربي/سرياني يخدم توجهات إيران بالهيمنة على المنطقة بشكل كبير.
• حيث تعاني الهوية المسيحية المشرقية اليوم من تهديدات عميقة على الأخص منها المسيحية العربية، في ظل حالة التقهقر العامة في المحيط العربي ومن ثم الانهيار العددي لهذه الإثنية والتغيّر العميق الذي أصاب محيطهم الثقافي والديمغرافي وتنازعهم بين أطراف سياسية تحاول الهيمنة على هذه الفئة، باستغلال التزعزع الحاصل بالهويات والانتماءات وحالة الضعف السياسي، الكمي، العسكري لهذه الفئة في محيط متنازع فان استقطاب الشباب المسيحي لقطب يفاخر بالقوة الظاهرية، العسكرية، السلطوية هو انزلاق ذو احتمالية كبيرة يجب أن ينظر لها المعنيون بمصير هؤلاء الشباب بجدية ومسؤولية.
مخاطر هذا الانزلاق:
• يُفترض ألا يغيب عن أذهان أي من المرجعيات الروحية المسيحية، سريانية كانت أم عربية أم أرمنية وسواها أن الهدف البعيد المدى لعمليات التشيّع هذه هو توسعة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإن دخل بها الإيرانيون من بوابة حماية الأقليات ومؤتمرات تطمين ووصاية فما هي إلا أدوات عملية الابتلاع الكامل للثقافة والهوية المسيحية المشرقية سيتبعها هيمنة سياسية، عسكرية، دينية مكانية وايديولوجية ولن يكون الاستدراك ممكناً بعد فوات الأوان.
• يعتبر استبدال ثقافة السلام التي تعتمد من أجل انتشارها على راية العلم والنهضة الثقافية التنويرية ونشر قيم التسامح الإنساني والتواجد المشترك المتمثلة بالثقافة المسيحية المشرقية، بثقافة تعتمد الصراع والقوة مظهراً وعمقاً وسلوكاً مقايضة خاسرة للشرق تتقهقر ببنيته الاجتماعية نحو مزيد من الصراعات والفتنة الدينية والكراهية.
• علينا رغم ذلك ألا ننسى أن المسيحيين في المنطقة وجدوا أنفسهم على أرض الواقع دون حليف وطني، بسبب عدة عوامل منها الانجرار للإيدلوجية السياسية الدينية الضيقة المصالح، وانسياق كثيرين لمستنقعات الألاعيب الطائفية لإيران والأسد وروسيا الساعية للتفرقة بينهم وبين أبناء بلدهم من المسيحيين، والذي كان فخاً نتج عنه آثار عميقة، كذلك الصمت عن التطرف برايات إسلامية فصائلية متعددة وعدم مواجهتها تحت حجج واهية، كذلك الانسياق وراء رجال دين صنعتهم الأجهزة المخابراتية الأسدية الإيرانية لتجهيل وتجميد المجتمع بحجة الخضوع للحاكم، والقبول بالكراهية والعصبية والعنصرية، في حين أنها ليست من أخلاق الأديان بشيء، وكذلك هو الانسياق للبعد الديني على حساب البعد الوطني فعندما يكون مواطن إندونيسي أقرب للمسلم السوري من مواطن سوري مسيحي أم درزي أم علوي فانه انقسام لن يكون إلا دافعاً نحو أرضيات هويات أخرى تبتعد بالجميع عن الهوية السورية، الوحيدة الجامعة للهويات على تنوعها، العربية، مسيحية منها ومسلمة، السريانية، الكردية، وغيرها.. انقسام يفتح الباب لدخول إيران اجتماعياً لتفتيت المجتمع السوري من الداخل وبفصم العروة الأكثر قوة ضمنه وهي التنوع، محققة هدف مسار الأسد لعقود مظلمة خمسة، فهل للبصيرة مكان في مستقبلنا؟ أم هي عصبات وعمائم سوداء وخضراء وصفراء أحكمت الوثاق على بصائرنا؟!.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!