-
ژينا أميني ومعضلة السلطة في إيران.. محاولات لفهم ما يحدث
لا تعدو الاحتجاجات الشعبية العفوية في غالبية مدن وأقاليم إيران كونها حدثاً طارئاً. إذ يمكن اعتبار الأزمات في إيران جزءاً يرافق تكوينها السياسي والتاريخي. هي دولة أزمة. كما أن أعراض ونتائج بناء الدولة الوطنية الحديثة في إيران منذ مطلع القرن العشرين وحتى اليوم تبدو متواضعة إلى حد بعيد، فلقد أخفقت الدولة في مرحلة ما قبل صعود الملالي للحكم في إنجاز المشروع الحداثي، ومن ثم عانى المواطنون في إيران من فكرة الفصل على أساس الهوية والدين والطائفة، بما يعني وجود جدران عتيقة وماضوية تسجن الفرد داخل الجماعات المتخيلة.
يتماثل الأمر ذاته مع وصول الخميني وآيات الله للحكم. النتيجة ذاتها مع اختلاف النخبة الحاكمة. غير أن المسار السلطوي الاستبدادي والشمولي فرض معطيات متقاربة من خلال بناء دولة دينية ثيوقراطية تقوم بتعبئة القومية الفارسية ومن ثم أدلجة هذا المكون الاجتماعي بمبادئ وقيم الولي الفقيه السياسي والعقائدية، بحيث يضحى هذا المكون أداة نبذ تلقائية للشعوب الفارسية. وإلى جانب أدوات السلطة القمعية المباشرة وعناصرها في الباسيج وطبقات الحرس الثوري بتنويعاته المختلفة تشكلت حاضنة ممانعة للتنوع الذي تحظى به إيران، وقد نجم عن ذلك استئصال واستبعاد ثقافات ولغات وتاريخ قطاعات مهمة في المجتمع، تمت محاصرتها ولم تصعد للمتن إلا في لحظات دراماتيكية مأساوية. كما هو الحال تماماً مع الفتاة الكردية الإيرانية زينة أميني التي تم قتلها على يد عناصر دورية شرطة الأخلاق بسبب "الحجاب السئ" وفق سردية النظام.
حادثة الفتاة الكردية الإيرانية تكاد لا تختلف عن آخرين يتعرضون للقمع وذلك حال المندائيين والبهائيين والبلوش والأحواز وغيرهم. حق تقرير المصير في إيران أو بالأحرى عند سلطة الملالي يساوي الإعدام علناً. أو بمعنى أدق تطهير وجودك السياسي لجهة منع انتقال عدوى الثورة والتمرد إلى آخرين. فشل الخميني وأتباعه ووكلائه كما غير في بناء مشروع سياسي يحمي المواطنية وقيم المدنية. وعليه، جرى تعميم خطاب ثقافي وسياسي متشنج قائم على الاستبداد والاضطهاد والكراهية. وثمة وجه ديني قاتم في هذه السلطة المتوحشة يحاول أن يستمد منها الغطاء أو الشرعية التي تحمي وجوده الأبدي من المسائلة والنقد والإطاحة به. لا توجد سياسة أو تنافس في ظل هذا الواقع بشروطه كما لا تتوافر أي فرصة لبناء قيم تعايش. إكراهات الحكم الديني تعني القبول بسلطته وحكمه طوعاً أو كراهية.
دستور الجمهورية الإسلامية الذي تم تدشينه في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1979، يبرز كافة الحمولات الأيدولوجية والسياسية للإسلام السياسي في نسخته الشيعية. هذه النسخة التي تنكشف في ممارساتها للحكم على مدار أربعة عقود التناقضات الكلية لهذا التيار الإسلاموي (ومثله السني) الذي يتبنى حلولاً نهائية جاهزة للتطبيق التلقائي والفوري لكافة المعضلات المجتمعية والاقتصادية والسياسية. نظرية ولاية الفقيه التي منحت سلطة مطلقة لطبقة رجال الدين، نفت أهم مبادئ وأسس الديمقراطية والدولة الحديثة. لم تعد هناك سيادة للشعب أو حقوق للمواطنة. وصنعت القيود الدينية جدران ملغمة تعزل بين الفئات وغيرها على أساس هوياتي طائفي.
تتأثر المواطنة في إيران بعدد من العوامل الداخلية الرئيسية منها الطبيعة التعددية للمجتمع الإيراني. تمثل إيران دولة متعددة القوميات، العرقية والإثنية، إذ يصل عدد القوميات العرقية إلي ستة هي: الفارسية، والعربية، والكردية، والبلوشية، والتركمانية، والآذرية. وهناك إحصاءات متعددة ومتباينة تكشف عن تعداد تلك القوميات، لكن كثيراً من التقديرات يشير إلى أنه "من بين 81 مليون هم تعداد سكان إيران، يشكل الفرس نحو 61% منهم، فيما تمثل القوميات غير الفارسية حوالي 39%. ومن بين القوميات غير الفارسية، يمثل الآذريون (16%)، والأكراد (10%)، واللور (6%)، والعرب (2%)، والتركمان (2%)، والبلوش (2%)، وأخرى (1%). ومن الناحية المذهبية، يدين ما يقرب من 84% من السكان بالمذهب الشيعي، فيما يشكل السنة 15%، وتتوزع نسبة الـ1% الباقية بين الأرثوذكس الأرمن، واليهود والزرادشت وغيرهم.
وفي المحصلة، يمكن القول إن نظرية ولاية الفقيه في نسختها الخمينية تمثل صورة مطلقة، تتبلور في أن الخميني أو من يخلفه في منصبه، كمرشد للثورة الإسلامية في إيران، هو المسؤول عن كافة المسلمين في العالم، وطاعته واجبة كطاعة الإمام المهدي المنتظر، باعتباره نائبه، ولا يتم تعيين الولي الفقيه عن طريق الانتخابات من قبل الشعب، بل ينتخب من قبل نخبة من الفقهاء، بدرجة آيات الله أي الخبراء. ويمنح الخميني صلاحيات واسعة للولي الفقيه، فيرى أن حكومة ولاية الفقيه هي شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج. فالولي الفقيه فوق الدستور، والقوانين الوضعية، وقراراته تعتبر قوانين إلهية واجبة التنفيذ .
لذلك، نجد في جمهورية إيران الإسلامية، ورغم وجود رئيس جمهورية، ومجلس برلمان منتخبين من قبل الشعب، إلا أن هؤلاء ليسوا صناع القرارات السياسية المهمة الحقيقيين، بينما أي قرار يتخذه رئيس الجمهورية، أو قانون يصدره البرلمان لا يمكن وضعه موضع التنفيذ إلا بعد أن يوافق عليه الولي الفقيه، ومجلس حماية الدستور الذي هو الآخر غير منتخب من قبل الشعب، ووظيفته اختيار المرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية والنيابية، ومن صلاحياته منع أي مرشح من الترشيح، إذا شك في ولائه للولي الفقيه.
تأميم المجال من جانب رجال الدين واحتكار العمل السياسي والاجتماعي والثقافي فضلاً عن السيطرة على مفاصل الاقتصاد، في حقيقة الأمر لم يحرم قطاعات واسعة من المواطنين من المشاركة، والتعبير عن ذواتهم وحسب، بل إنه دفع بمجموعات إلى ثورة في مواجهة الدولة في الثمانينيات فيما يعرف بثورة الأقليات، فضلاً عن العديد من الاحتجاجات التي حاولت التخلص من قيود السلطة التي حظرت عليهم التمتع بحقوقهم الثقافية والتاريخية. ومنها احتجاجات أعوام 1999، واحتجاجات 2009، واحتجاجات 2017، والاحتجاجات الفئوية المتصاعدة لاحقاً لا سيما في مناطق الأقليات، ثم احتجاجات قطاعات فئوية من المجتمع كالمرأة، والعمال والطلاب، وسائقي الشاحنات، بل أصبح الجميع يعمل في ظل توجيه سلطوى للقيم الدينية، وبث لخطاب ثقافي موحد، ونمط تنموي رعائي تمييزي، أسهم في خلق فجوات واسعة داخل المجتمع بين النخبة الحاكمة وبقية المواطنين، وبين القومية المهيمنة وبقية القوميات، وبين المذهب الذي يسود، وبقية المذاهب والأديان، في تجلٍّ واضح لخلل في بنية الدولة الوطنية، وعدم وقوف مواطنيها على قدم المساواة.
ليفانت - رامي شفيق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!