-
سوريا ساحة تنافس أميركي روسي على خلفية “تدهور تراكمي” لعلاقاتهما إستراتيجياً
حاولت روسيا طيلة السنوات الماضية، استغلال الأزمة السورية كملف رئيسي، يمكن أن يشكل التعاون فيه وحوله، بدايةً لـ”شراكة ندية” تنشدها مع الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، في التسعينيات.
إلا أنّ البيت الأبيض في عهد إدارة أوباما، ومن ثم إدارة دونالد ترامب، يتعاطى مع هذه الرغبة الروسية وفق نهج ثابت، يقوم على القبول بتعاون يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، ويحول دون تفرد الروس في الملف السوري، وإبقاء نفوذهم الذي عززوه في سوريا وعبرها، إقليمياً، ضمن مجال التأثير الأميركي الفعال. ويظهر كذلك نهج ثابت تبنته إدارات متعاقبة، منذ بوش الابن وحتى ترامب، في التخلص من معاهدات إستراتيجية روسية –أميركية، يؤدي انهيارها إلى “تدهور تراكمي” في العلاقات مع روسيا، سيصل قريبا مرحلة “الذروة”، وستكون له دون شك تداعياته على الوضع في سوريا.
التعاون فقط لضمان سلامة النظام وأمن إسرائيل
كما كانت عليه الحال في عهدإدارة أوباما، تتجنب إدارة ترامب تعاوناً شاملاً مع روسيا في سوريا. وكانت هناك محطات تعاون محدودة طيلة السنوات الماضية، في مقدمتها الاتفاق الروسي_الأميركي، عام 2013، حول تدمير الترسانة الكيماوية السورية، الذي أنقذ النظام من ضربة أميركية، عقاباً على مجزرة الغوطة ذلك العام. وفي عهد أوباما أيضاً، جرى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 2016، لكنه سرعان ما انهار. ومن ثم في عهد ترمب جاء الاتفاق حول إقامة منطقة خفض تصعيد جنوب غرب سوريا، لإبعاد القوات الإيرانية عن تلك المنطقة، وهو اتفاق مرتبط، أولاً وأخيراً، بحرص مشترك على أمن إسرائيل. ويبقى التفاهم عام 2015 حول التنسيق لمنع الحوادث خلال العمليات في سوريا اتفاقاً وحيداً في سوريا، يستمر العمل بموجبه بين الروس والأميركيين.
ترمب ملتزم بسياسة التخلّص من قيود المعاهدات الإستراتيجية
النهج الموحد في سياسات الإدارات الأميركية السابقة، لم يقتصر على تعاطيها مع رغبة روسيا في تعاون حول سوريا، بل وشمل كذلك مجال المعاهدات الإستراتيجية. إذ يتجه الرئيس الأميركي، على ما يبدو، نحو الانسحاب من معاهدة “ستارت-3” للحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية، التي وقعها الرئيسان، الأميركي، باراك أوباما، والروسي، دميتري ميدفيديف، في أبريل / نيسان عام 2010، لمدة عشر سنوات، وتنتهي شتاء العام القادم. ولا يرفض ترمب توقيع معاهدة جديدة بديلة، أو تمديد الحالة، لكن شرط أن تنضم الصين إليها، وهو ما ترفضه بكين. هذا الموقف عزز قناعة المسؤولين الروس، بأنّ البيت الأبيض سينسحب العام القادم من المعاهدة، دون وضع بديل عنها. وبذلك يكون ترامب قد أنجز ما بدأ به بوش الابن، الذي أعلن عام 2001، عن انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من الصواريخ البالستية المضادة للصواريخ. وشكل القرار الأميركي حينها خطوة أولى في نهج التخلص من معاهدات حددت معالم المشهد الدولي. ولأن تلك الخطوة أدت إلى تغيرات جذرية في بنية الأمن في أوروبا، انهارت في عهد إدارة أوباما معاهدة إستراتيجية ثانية، هي اتفاقية القوات التقليدية في أوروبا، التي انسحبت روسيا منها عام 2015، بعد أن رفض الغرب طلباً روسيا بتعديل تلك الاتفاقية على ضوء نشر مكونات الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا، وانضمام غالبية دول حلف وارسو سابقاً إلى حلف الناتو.
أما معاهدة الحد من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، التي وقعها الرئيسان الأميركي، دونالد ريغان، والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف، نهاية عام 1987، فقد أخذت تسير نحو نهايتها على خلفية التوتر بين موسكو وواشنطن، في عهد بوش الابن، بسبب “الدرع الصاروخية. بعد ذلك، في عهد أوباما تبادلت موسكو وواشنطن الاتهامات بانتهاك المعاهدة. واستمر الوضع على حاله، حتى عهد ترمب، الذي أعلن في أغسطس/ آب 2019 عن انسحاب بلاده من تلك المعاهدة، وردت روسيا بخطوة مماثلة. ولم يبقَ حالياً سوى معاهدة “ستارت-3″، ومع انتهاء صلاحيتها شتاء 2021، سيدخل العالم مرحلة جديدة، تغيب فيها ضوابط الأمن الإستراتيجي، وتفتح نحو تجدد المواجهة وسباق التسلح بين القوى الكبرى.
سوريا ساحة مواجهة أميركية -روسية
عندما أرسلت روسيا مجموعة من قواتها إلى سوريا، قالت إنّ الهدف التصدي للإرهاب، لكنها في واقع الأمر استفادت من الحدث لتحصل أخيراً على موقع مشرف على المتوسط. ويبدو أنّها تستعد الآن لإعداد قواعدها، بما يتناسب مع “المهام الإستراتيجية”، التي ستفرضها تطورات المرحلة القادمة. وأعلنت عزمها توقيع بروتوكولاً إضافياً مع النظام السوري، يسمح بتوسيع قواعدها، الجوية في حميميم، والبحرية في طرطوس. ويرى مراقبون أنّ الهدف هو تعزيز قدرة تلك القواعد، لتعزيز، والحفاظ على، النفوذ الروسي في الشرق الأوسط. أما الهدف الأكثر أهمية، فهو تحسين القدرات التقنية القتالية والأمنية لتلك القواعد، بما يؤهلها للعب دور في الحد من قدرة الأسطول الأميركي السادس على التحكم المطلق بالوضع في البحر الأبيض المتوسط، ومضائقه ذات الأهمية الإستراتيجية لروسيا، عسكرياً وتجارياً.
كما تعمل روسيا على ترتيب الوضع في جنوب غربي سوريا، لتكون القوة الوحيدة صاحبة النفوذ هناك، وهي تعلم تماما أنّ تلك المنطقة، كانت وما تزال وستبقى، مفتاحاَ رئيسياً للحوار مع واشنطن، نظراً لارتباطها بأمن إسرائيل. في موازاة ذلك ما تزال روسيا تحاول الحصول على نفوذ شرق وشمال شرق سوريا، لضمان خط اتصال مباشر من قزوين، عبر إيران، والعراق، وصولاً إلى سوريا. ضمن هذه الترتيبات، يبدو أنّ موسكو لن تتعجل في موضوع الوجود الإيراني في سوريا، وقد تكتفي بتقييده ووضعه تحت إشرافها بشكل أو بآخر، لكنها بكل الأحوال لن تذهب إلى استئصاله نهائياً.
في المقابل، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز الاستقرار في مناطق نفوذها، وتوسيع تلك المناطق. حيث انخرطت، أخيراً، بشكل فعال في الحوار الكردي-الكردي، وفي ترتيب الوضع في مناطق “قسد”، وسط تسريبات حول حوار، بإشراف ودفع أميركيين، لحل الخلافات مع تركيا، وتطبيع علاقاتها مع القوى الكردية في شمال شرق وشمال سوريا. ولا يستبعد أنّها تسعى عبر هذا كله إلى أن تكون المسيطرة بشكل تام على الحدود، وتشكيل طوق يمتد من قاعدتها في التنف عند المثلث الحدودي السوري-الأردني- العراقي، وحتى مناطق شمال شرق سوريا. فضلاً عن ذلك، فإنّ هذا الطوق الأميركي سيحرم، أو ربما يعرقل على أقل تقدير، أي محاولة روسية لمد شبكات أنابيب نفط من الخليج وحتى المتوسط.
ومن غير الواضح، بعد، كيف سينعكس هذا كله على مستقبل الوضع في سوريا، لكن من شبه المؤكد أنّ تأثير “التوتر الإستراتيجي” بين موسكو وواشنطن، سيكون حاضراً بقوة خلال التسوية السياسية للأزمة السورية، وستكون بصماته حاضرة في طبيعتها وتفاصيلها.
طه عبد الواحد
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!