الوضع المظلم
الجمعة ٢٠ / سبتمبر / ٢٠٢٤
Logo
  • قوانين مناهضة العنف الأسري في الشرق الأوسط والتداخل التشريعي المربك للقضاة

قوانين مناهضة العنف الأسري في الشرق الأوسط والتداخل التشريعي المربك للقضاة
صباح الداوودي


أحياناً تتفق الإرادات على المضي والسير باتجاه سنّ وتشريع قانون ما بدعوى الصالح العام، لكن قد تتباين الغايات بين تلك الإرادات كتباين واختلاف غايتي القط والبلبل من الرغبة المشتركة في فتح قفص البلبل التوّاق للحرية، أو ربما تكون الغايات كلها عبارة عن نوايا طيبة لكنها غير مقدرة للنتائج التي تلي الأحلام الوردية لأصحاب الترف الفكري والسرف الثقافي المبالغ فيه. العنف الأسري


إذا كان هناك في القانون مبدأ أو نظرية تنازع القوانين في نطاق خاص متعلق بوجود عنصر أجنبي في علاقة قانونية موضوع دعوى ما بين أطرافها، أو ربما كان هنالك طرف أجنبي ما في تلك العلاقة، بمعنى كينونة أحد طرفي الدعوى أجنبياً متصوراً وممكناً طالما أنّ التنازع في هذه الحالة سيحدث بين قوانين أو قانونين منتميين لدولتين مختلفتين، كما جاء النص على موضوعه في المادة (30) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951. لكن هل يُعقل حدوث تنازع بين قوانين سارية المفعول داخل الدولة الواحدة، وفي دعاوى بين أطراف أو خصوم هم من مواطني الدولة الواحدة؟


نظراً لعدم إمكان ذلك، وعدم جوازه أصلاً، لهذا بحثت مطولاً عن مفردة تليق وتنطبق على حالة التناقض التي تتولد بسبب وجود قانونين داخل الدولة الواحدة، وتحكمان حالة واحدة وعلاقة قانونية واحدة، ولكل منهما حكمين مغايرين وآثار مغايرة ومختلفة، ولم أجد بنتيجة البحث المطوّل الذي أوجزته هنا سوى كلمة أو مصطلح (تداخل القوانين) لوصف تلك الحالة الشاذة علّه يكون وافياً له.


وإذا لم يكن التداخل التشريعي متصوراً في العهود والأزمنة السابقة هنا في بلاد الرافدين وقوانينها، وإذا كان هذا التنازع بدوره غير متصوّر الوجود بوفرة في قوانين الدول الأخرى، فإنّ إمكانيّة وجوده في العراق وقوانينه اليوم بات في حكم المتصوّر، وهذا يمثّل حالة غير صحية وغير صحيحة ويجب معالجتها تشريعياً قبل كل شيء، وقبل ترتيبها آثاراً سلبية بنتيجة التطبيق الذي سيواجه صعوبات جمة بلا شك.


يمثل التداخل التشريعي أحد أكبر المشاكل التي تواجه مطبق القانون الأول، وهو القاضي والمدّعي العام والمحامي أيضاً، وهذا التداخل التشريعي يحدث حينما يتم سنّ قانون أو تشريع من البرلمان أو السلطة التشريعية عموماً، بحيث تحدث حالة من التناقض في نص مادة ما من المواد التي يضمها قانون ما من القوانين مع نصوص قانون مستنّ حديثاً، أي بين نصّ قانوني قديم لكنه نافذ، ويأتي أُكله كل حين مع نص قانوني جديد لا يُعرف مدى نجاح تطبيقه بعد، أي أنّ التداخل التشريعي يُقصد به هنا هو ذلك التداخل بين نص جديد مع نص قانوني لقانون سابق أو حتى مع نصّ دستوري، وإذا كانت الحجة الحاضرة دوماً تقول بأنّ هنالك محكمة خاصة عليا تبتّ في التناقض هذا وترفع اللبس عنه في النهاية بقرار، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح دائماً هو، لماذا الإضطرار دائماّ لللوذ بقرار يفسر نصاً قانونياً يعتريه التناقض والنفور مع قوانين أخرى؟ لماذا يتم سنّ نص قانوني مناقض لنص آخر أصلاً؟ ألا يؤدي هذا إلى إلحاق الحيف والضرر بطرف من أطراف الدعوى حتى لو تمثّل ذلك الضرر والحيف بتأخر حسم دعوى من الدعاوى في انتظار صدور قرار من الهيئة القضائية الأعلى في الدولة، والتي تبتّ في الموضوع أولاً، لرفع اللبس الحادث بنتيجة التصادم والتداخل التشريعي بين نصين قانونيين متناقضين؟ ألا يمكن إبتداء التريّث عند إصدار قانون ما مخافة حدوث أي تداخل لنصوصه مع نصوص قانونية موجودة أساساً؟


إنّ الملاحظ في آليات استصدار واستنان القوانين وتشريعها في بلدان الشرق عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً، هو هيمنة الجانب العاطفي على تلك الآليات، بحيث تكون تلك العملية في الغالب نتاج رد فعل جماعي شعبي أو نخبوي في الدولة بنتيجة حادث أو مجموعة حوادث ما تدفع الجهات الرسمية والشبه الرسمية، ومنها الإعلام، إلى تأجيج العواطف أكثر والدفع بالسلطة التشريعية إلى اتجاه الإسراع في سنّ قانون تتفاخر به الجهات الرسمية والسلطات المختصّة أمام الرأي العام الداخلي، وأمام الدول والمنظمات الأممية، في وقت تقع الطامة الكبرى والنتائج غير المتوقعة والثقيلة والتداعيات غير المنتظرة في عملية تطبيق نصوص ذلك القانون على مطبق القانون، الذي يجد منذ البداية نصوصاً سوف يرى بأنّ تطبيقها يؤدّي الى التصادم مع نصّ قانوني آخر موجود وغير ملغى ولا معدل حتى.


ما يؤدي في النتيجة العاجلة الى اضطرار القاضي الى بذل العناية الموصوفة بما فوق المعتاد وبما يقترب من حدود عملية الاجتهاد حتى في مورد النص ووجوده من قبل قاضٍ حائر لأجل الوصول إلى حالة من الموائمة بين النصوص المتصادمة المتناقضة، درءاً للتداخل التشريعي الذي يكون قد حدث فعلاً، ومنذ لحظات بدء نفاذ القانون المشرّع حديثاً والمناقض لآخر موجود، بحيث إنّ الواقعة الحادثة لاحقاً أو موضوع الدعوى إنّما تلعب أو يلعب دور الكاشف للتناقض المتولّد أساساً منذ لحظة سنّ القانون المناقض، وليس منشِئاً له ولا بموجِد.


إنّ أبسط مثال يرد الذهن على حالة التداخل التشريعي، يمكن لمسه اليوم واستشفافه من خلال ميل بعض الجهات الرسمية وشبه الرسمية، وكذلك منظمات المجتمع المدني ودعواتها إلى سنّ وتشريع قوانين حماية الأسرة والطفولة والأمومة، وذلك من خلال القوانين التي يجب أن تكون مماثلة ومحاكية لقوانين وتشريعات البلدان والمجتمعات المتقدمة والراقية والمتقدمة صناعياً، وبعبارة أكثر صراحة، محاكاة القوانين الغربية من دون إيلاء جانب الخصوصيات التي يفرضها الطابع الشرقي لمجتمعات الشرق عموماً، والشرق الأوسط خصوصاً، ومن دون إيلاء أيّة أهمية بما هو موجود فعلاً من قوانين ومن مواد قانونية موجودة فعلاً والتي تتصدّى أساساً بالتنظيم الدقيق لكل حالة خرق أو جريمة تمسّ كيان الأسرة أو الطفل أو الأم والأب والأقارب.


وكمثال بسيط على التداخل التشريعي الذي سيحدث لاحقاً خلال تطبيق قانون جديد يُسنّ على العجالة من الأمر، كما هو معلوم فإنّه وفق قانون الأحوال الشخصية يجوز للقاضي أن يأذن بزواج من بلغ الخامسة عشر من العمر ولم يبلغ الثامنة عشر، شرط توفر الأهلية والقابلية البدنية بعد موافقة الولي الشرعي.


ورغم أنّ نص الفقرة (أ) من المادة الثامنة من قانون الأحوال الشخصية العراقي، لم يحدّد المراد والمقصود ب(من) الذي يروم الزواج، إلا أنّه حتى في حال التسليم بأنّ النص يشمل الزوجين أو الخاطبين (وهو المسلم به)، فإنّ نصّ تلك المادة توجب موافقة الولي لإتمام عقد الزواج، جيد، لكن هنالك نصوص أو نص في قانون العنف الأسري النافذ في الأقليم (أقليم كُردستان العراق) أو القانون رقم (8) لسنة 2011، وكذلك في قانون مناهضة العنف الأسري المراد إصداره في برلمان العراق (وهو بالمناسبة قانون محاكي للنسخة الكُردستانية العراقية) ويكاد أن يكون نسخة طبق الأصل منه، هذا القانون يعاقب من يدفع ابنته غير البالغة للثامنة عشر باتجاه الزواج بعقوبات، بأيّهما نأخذ في هذه الحالة؟ نصوص قانون الأحوال الشخصية التي هي مقتبسة من الشريعة؟ أم بقانون العنف الأسري وهو قانون أوربي خالص، ومعتمد في سنه وإصداره على فرضية وجود ترف اجتماعي لدى أفراد المجتمع المشبع بالتعاليم والقيم والثقافات الشرقية الخالصة؟.


ثم لا ننسى الدستور العراقي الحالي، ففيه مادة قانونية تؤكد بشدة على أنّ كل قانون أو قرار أو أمر يصدر خلافاً لأحكام الشريعة هو مردود ولا يؤخذ به، فقد ورد في المادة (2) أولاً منه النص بأنّ (الإسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع، لايجوز سنّ قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام).


مثال آخر أكثر بساطة، وفق قانون العنف الأسري فإنّ قيام الأب بصفع ابنه ولو صفعة واحدة كفيل بأن يدخله إلى الحبس لأشهر، لأنّه يكون قد اقترف جريمة العنف الأسري.


لكن وفق قانون العقوبات العراقي النافذ، فإن ضرب الأب لابنه يُعد من أسباب الإباحة، بل استعمالاً للحق، وبالتالي لا يُعتبر قيامه بضربه جريمة بل فضيلة من فضائل التربية والتأديب، فقد نصّت المادة (41) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، على (لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالاً لحقّ مقرر بمقتضى القانون ويعتبر استعمالاً للحق: تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر، في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً أو عرفاً).


لا بل إنّه ووفق نصوص من قانون رعاية الأحداث رقم (76) لسنة 1983 النافذ، وتحديداً في نص المادتين (29) و(30) منه، تتم مساءلة الأب جزائياً إن لم يقم برعاية وتربية ابنه تربية حسنة، وكما تعلمون فإنّ الضرب (نقصد ضرب الآباء والأمهات لأبنائهم) هو أسّ التربية والتعليم والتنشئة للصغار، سواء كان ذلك في الغرب أو في الشرق، ولا يُعقل أن يدّعي مشرع ما مهما كان فاضلاً ومثالياً بأنّه أكثر حناناً وشفقة واهتماماً من الأبوين على ولدهما، وهذا ليس بموضوعنا، لكن السؤال هو، بأيهما نأخذ؟ أي القانونين أو أية قوانين منها نطبق في هكذا حالات؟ ماذا لو جاء محامي (حوك) وقال لقاضي الجنح: (سيادة القاضي المحترم إنّ موكلي قام بتأديب ابنه مخافة أن ينحرف… إلخ)؟


هنا، أمام القاضي طريقان لا ثالث لهما، إما أن يعتبر دفاع المحامي اعترافاً من وكيل المتهم بالجريمة المنسوبة إليه، أي يعمل وفق قانون مناهضة العنف الأسري، أو أن يعتبر أقواله دفاعاً مستنداً على قانون موجود بالفعل، وهو أقدم عمراً من قانون العنف الأسري الجديد الطارئ، أي أن يأخذ بأسباب الإباحة التي تنصّ عليها المادة (41) من قانون العقوبات العراقي.


نحن هنا أمام ظاهرة التداخل التشريعي الصارخ، والذي يمكن تفاديه عن طريق الدراسة الأعمق، ومن كل الجوانب، لخصوصيات القوانين الأخرى الموجودة بالفعل، وتهيئة المجتمع توعوياً وتثقيفياً لأجل تقبل تطبيق قوانين حديثة محاكية لقوانين دول تختلف في الكثير من قيمها عن قيمنا الشرقية، لأجل أن يحقق القانون المراد إصداره غاياته السامية أولاً، أو على الأقل أن لا يتسبب في إلحاق الأذى بمن ستطبق عليهم تلك القوانين أو بموضوع دعوى ما أو أطرافها لاحقاً لأنّ مفردة التداخل التشريعي والتناقض والتصادم بين القوانين ليس هو بأمر منحصر على التناقض الكتابي أو التداخل الرمزي أو التصادم النظري، بل إنّ التداخل هذا سيولد نتائج وآثار ستكون كافية إلى ارتفاع الأصوات هذه المرة لأجل إلغاء القانون الذي سيسبب الضرر أكثر من النفع الظاهر.


إنّ قوانين مناهضة العنف الأسري هي اليوم في المجتمعات الشرقية والشرق الأوسطية في ظل سيادة سلطان القيم الشرقية الخالصة، سواء كانت قيماً عابرة للقارات أو قيماً قبلية خاصة بمجتمع صغير تصبح حالها في النهاية وعند التطبيق مثل الخمر، سوف تخدر المجتمع وتوهمه بالخيال الجميل، وسوف تعبر به آنياً للتحليق في سماوات أوهام الرقي الموهوم، لكنها لن تحقق له أبداً الغاية الأسمى وهي حماية الأسرة بسبب عدم مناسبتها، زمانياً ومرحلياً، مع قيم المجتمع ومع بقية قوانينه النافذة والسارية. إنّ قوانين مناهضة العنف الأسري اليوم هي كالخمر، ضرره أكثر من نفعه.


ليفانت – صباح الداوودي  ليفانت 







 



النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!