-
كيف ساهمت فرنسا في صناعة نظام الأسد؟
تعاملت الحكومات الفرنسية المتعاقبة، اليسارية منها واليمينية، مع نظام الأسد على أساس من الواقعية السياسية بهدف الحفاظ على مصالحها الجيوسياسية في الشرق الأوسط، و محاولة استعادة دور فرنسا كلاعب أساسي في المنطقة في مواجهة الهيمنة الأمريكية.
لهذا السبب بقيت فرنسا لعقود الشريك الغربي الأساسي للأسد مانحةً نظامه غطاءً من الشرعية الدولية بناءً على افتراض عدم وجود بدائل واضحة، وبالتالي فإن عدم الاستقرار كان يمكن أن يؤثر على عدد من الملفات الهامة، وبشكل خاص الحرب الأهلية في لبنان، ومحادثات السلام مع إسرائيل، والخوف من صعود القوى الإسلامية.
بعدما استولى حافظ الأسد على السلطة في سوريا عام 1970، عمل بشكل تدريجي على إنشاء دكتاتوريته بالاعتماد بشكل كبير على العلاقات الأسرية والأقلية العلوية، والسيطرة على الأكثرية السنية عبر المؤسسات الدينية والشراكات التجارية، واستخدام مبدأ "فرّق تسد" مع باقي الأقليات من خلال فرض حالة من التوتر المستمر بينها.
خلال عدّة سنوات تحوّل الأسد إلى السلطة الوحيدة في الدولة، بعدما أصبح قائداً للجيش وحزب البعث الحاكم، ووسّع صلاحياته لتشمل كافة جوانب الحياة، وفي ذات الوقت، تمكّن من القضاء على جميع منافسيه وإنهاء الحياة السياسية في البلاد عبر القمع الوحشي لأي معارضة له، ابتداءً من حزب العمل الشيوعي ووصولاً إلى جماعة الأخوان المسلمين.
أما على الصعيد الإقليمي، فرض الأسد نفسه كلاعب أساسي في العديد من الصراعات السياسية والملفات في الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع العربي-الإسرائيلي والحرب الأهلية اللبنانية.
لكن مساعي الأسد على المستويين المحلي والإقليمي كانت تفتقر إلى الشرعية الدولية، وهنا تحديداً لعبت الحكومات الفرنسية المتعاقبة دوراً بارزاً في تطوير علاقاتها مع النظام السوري ومنحة الشرعية الدولية اللازمة، وبشكل خاص بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي، الذي كان الداعم الرئيس للأسد حتى ذلك الوقت، ويمكن القول، إنّ كلاً من الرئيسين الفرنسيين، فرانسوا ميتيران وجاك شيراك، كانا ناجحين في هذه "المهمة".
عندما بدأت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، تدخّل النظام السوري في لبنان سياسياً وعسكرياً، وحتى ثقافياً، وبقي الجيش السوري في لبنان كقوة محتلة حتى عام 2005. خلال عامي 1983و 1984، كان الجيش السوري مسؤولاً عن قتل مئات الجنود الفرنسيين والأمريكيين، إلى جانب الآلاف من المدنيين اللبنانيين، بالإضافة إلى مهاجمة الجماعات المسيحية المسلحة التي كانت مدعومة.من الحكومة الفرنسية آنذاك. كل ذلك جاء بعد اغتيال السفير الفرنسي إلى بيروت في الرابع من أيلول عام 1981.
خلال الفترة ذاتها، قام نظام الأسد بقتل واعتقال وتعذيب عشرات آلاف المدنيين داخل سوريا، سواء كانوا إسلاميين أم شيوعيين، وتشير التقارير إلى مقتل نحو عشرين ألف مدني في مدينة حماة وحدها عام 1982، ومع ذلك لم يقم فرانسوا ميتيران بإدانة القمع العنيف في سوريا بحجة أن تجاهل المجزرة كان أفضل من دعم الأخوان المسلمين.
علاوةً على ذلك، زار ميتيران دمشق عام 1984، وبعدها بأربع سنوات، وتحديداً في السابع والعشرين من تموز 1988، زار الأسد فرنسا للمرة الأولى للقاء نظيره الفرنسي، الذي كان قد أعيد انتخابه لولاية رئاسية جديدة. تلك الزيارة حملت أهمية كبيرة للأسد على الصعيد السياسي، بعدما كان يعاني من عزلة دولية. في ذلك اللقاء، ناقش الرئيسان مستقبل لبنان بصفتهما لاعبين أساسيين في البلد الصغير، وبدا واضحاً أن المصالح الفرنسية في سوريا كانت محور السياسة الخارجية الفرنسية تجاه سوريا، لتحافظ باريس منذ ذلك الوقت على هذه الرؤية السياسية في تعاملاتها مع الأسد.
بدوره، وخلال توليه منصب الرئاسة الفرنسية بين عامي 1995 – 2007 وفّر جاك شيراك للأسد فرصة عظيمة لتقوية موقعه في كثير من القضايا على الساحتين الإقليمية والدولية عبر ما كان يعرف بالعلاقات الفرانكو-سورية، بغضّ النظر عن اختلاف المصالح التي رغب الطرفان في تحقيقها من بقائهما في لبنان.
في نهاية التسعينات، بدأ حافظ الأسد بتحضير ابنه بشار ليرث حكمه، لذلك اعتمد على دعم شيراك، والذي أخذه بالفعل تحت جناحيه. في تشرين الثاني من عام 1999، استقبل شيراك الشاب بشار في باريس، وبعد عدة أشهر، كان شيراك الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر جنازة حافظ الأسد. لذلك كان من الواضح أن بشار الأسد كان المرشح الوحيد لمنصب الرئاسة، حتى قبل أن يقوم أصدقاء والده من ذوي النفوذ بتغيير الدستور السوري ليتناسب مع الرئيس الشاب، لعدم إفساح المجال أمام "المجهول".ولتجنب أي خلل محتمل في العلاقات الفرنسية السورية، بما يخدم مصالح باريس في الشرق الأوسط ((الأوضاع في لبنان، عملية السلام مع إسرائيل، ودور حماس في الأراضي الفلسطينية)).
لكن، وبحلول صيف 2004، أدرك شيراك أن الرئيس الشاب استغل علاقتهما لزيادة نفوذه في لبنان، فالأسد عمل على توطيد تحالفه مع إيران وحزب الله، ومن خلفهما موسكو، وفي المقابل اتخذ موقفاً عدائياً من رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، الذي كان صديقاً مقرباً من شيراك، ويتلقى الدعم من المملكة العربية السعودية.
إلى جانب ذلك، فإن النظام السوري، الذي وقف مع باريس ضد التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، كان متهماً من قبل الإدارة الأمريكية بتجنيد الجهاديين وتسهيل مرورهم عبر الحدود السورية لتنفيذ هجمات في الأراضي العراقية.
وكنتيجة لذلك، عملت باريس وواشنطن سوية لزيادة الضغط على دمشق، ودفعت باتجاه إصدار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559في أيلول 2004، والذي طالب بإجراء انتخابات رئاسية لبنانية حرة ونزيهة، كما دعا كل القوات الأجنبية للانسحاب من لبنان، وكانت تلك نقطة التحول الأولى في الدبلوماسية الفرنسية تجاه سوريا.
بعد خمسة أشهر من ذلك، حدث أمر آخر كان سبباً في تغير السياسة الخارجية الفرنسية تجاه سوريا، حينما تم اغتيال الحريري يوم الرايع عشر من شباط عام 2005 باستخدام سيارة مفخخة في العاصمة بيروت، وتمّ اتّهام النظام السوري وحليفه حزب الله اللبناني بالوقوف وراء ذلك، كما أقام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تحقيقاً أشار في البداية إلى تورّط سوري محتمل في الهجوم، على الرغم من أن المحكمة الخاصة التي أنشأت لهذا الغرض لم تستطع التوصل إلى استنتاجات ملموسة لأن معظم الشهود اغتيلوا لاحقاً أيضاً.
بغض النظر عن انسحاب القوات السورية من لبنان في العام ذاته، وسّع شيراك الضغط السياسي على نظام دمشق، ونجح في فرض عزلة دولية عليه استمرت حتى انتهاء فترته الرئاسية، وانتخاب نيكولا ساركوزي رئيساً لفرنسا.
في الوقت نفسه، فرضت واشنطن ثلاث جولات من العقوبات على النظام السوري ردّاً على تورطه في دعم الجماعات والأنشطة الإرهابية، وسعيه لامتلاك أسلحة دمار شامل، واحتلال لبنان.
وعلى النقيض من سياسة شيراك، فضّل ساركوزي التقليل من الاهتمام بالجانب السياسي للعلاقة بين باريس ودمشق، وعمل على تعزيز الشراكة الاقتصادية بينهما، محاولاً بذلك اتباع نهج للتقارب مع الأسد وإبعاده عن إيران عبر إشراكه في مشروعه الاقتصادي، الذي أسماه الاتحاد من أجل المتوسط، إلى جانب سبع وعشرين دولة عضوة في الاتحاد الأوروبي، ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، وفي الثالث عشر من تموز عام 2008 تم إطلاق المشروع لتتويج جهود عدد من البعثات الدبلوماسية بين باريس ودمشق عبر بيروت خلال عامين. في الشهر ذاته، دعا ساركوزي الأسد لزيارة فرنسا احتفالاً بـ"التقدم الديمقراطي"الذي حققه، وهو ما مهّد الطريق لتطوير العلاقات الفرنسية السورية بشكل أكبر.
بعد عامين، في شباط 2010، زار رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، فرانسوا فيون، دمشق للقاء نظيره ناجي العطري، برفقة وزيري الاقتصاد والثقافة، كأول زيارة من نوعها بعد نحو ثلاثة عقود، بهدف توقيع أحد عشر اتفاق تعاون في عدة قطاعات، من بينها الطاقة والنقل والطيران والثقافة، وهو ما شكّل مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين، وفقاً لما صرح به العطري بعد اللقاء.
في الواقع، لا يمكن تجاهل الدور الذي لعبه ساركوزي في إنعاش الاقتصاد السوري، فبعد وصوله إلى منصب الرئاسة عام 2000، عمل بشار الأسد على تحرير الاقتصاد السوري، وزيادة دور القطاع الخاص على حساب القطاع العام، إلى جانب محاولة جذب الاستثمارات الأجنبية، لكن جهود حكومته لم تكن كافية لتحسين الحالة الاقتصادية في البلاد، وواجهت دمشق تحديات في الوصول إلى التمويل اللازم، وذلك بسبب انتشار الفساد، بالإضافة إلى القيود السياسية المفروضة عليها، لكن المستثمرين الفرنسيين قاموا بزيارات دورية إلى سوريا بعدما أبدى ساركوزي رغبته في تطوير علاقاته مع الأسد، على الأقل من الناحية الاقتصادية، ومن جهتها، قدّمت الحكومة السورية تسهيلات كبيرة للمستثمرين السوريين الراغبين في توقيع شراكات اقتصادية مع نظرائهم الفرنسيين، وهو ما تجلّى في افتتاح فرع للوكالة الفرنسية للتنمية في دمشق نهاية عام 2009، تزامناً مع تطور العلاقات الاقتصادية الفرنسية-السورية كنتيجة لعودة الاستثمارات الفرنسية إلى سوريا.
التجارة بين البلدين زادت بنحو 20%، في حين أن الاستثمارات الفرنسية المباشرة في سوريا ارتفعت من 10مليون يورو في 2005إلى 800مليون يورو، كما عادت شركة النفط الفرنسية العملاقة "توتال" إلى السوق السورية، وأقامت "لافارج" منشآت لتصنيع الأسمنت في دمشق وحلب بتكلفة وصلت إلى ثلاثة مليارات يورو، وبذلك أصبحت فرنسا ثالث دولة في العالم من حيث حجم التبادل التجاري مع سوريا، بعد كل من إيطاليا والمملكة العربية السعودية، وشكّلت الصادرات السورية إلى فرنسا الجزء الأكبر من هذا التبادل، بنسبة بلغت 80% من إجمالي التبادل التجاري، وبقيمة تجاوزت 900مليون يورو، ومعظم التجارة كانت تتعلق بالنفط الخام، ما جعل فرنسا ثاني أكبر دولة تستقبل الصادرات السورية بعد إيطاليا. في الوقت ذاته، استوردت سوريا من فرنسا المشتقات النفطية، التي مثّلت 40% من إجمالي الواردات. هذه الأرقام قد تبدو غير مهمة بالنسبة للاقتصاد الفرنسي، لكنها بالتأكيد كانت ذات قيمة كبيرة لبلد صغير مثل سوريا.
استمرت السياسة الخارجية الفرنسية تجاه سوريا على هذا النحو حتى اندلاع الثورة السورية في آذار 2011، والتي أدّت إلى تغيّر كبير في الموقف الفرنسي، فكانت فرنسا أول بلد غربي يطالب بالتدخل العسكري لإسقاط النظام السوري، واستمرّت في الإصرار على رفض السماح لبشار الأسد بأن يكون جزءاً من أي حل سياسي مستقبلي، بالإضافة إلى دعم المعارضة السياسية والعسكرية لنظامه، إلا أن هذا التغيّر بقي نابعاً من المصالح ذاتها، ومن ضمن ذلك المواجهة المتعددة الأوجه مع روسيا.
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!