-
ما بعد الحرب
مما لا شك فيه أنّ هذه الحرب التي تدور رحاها الآن على الأراضي الأوكرانية ستكتب مهما كانت نتيجتها فصلاً جديداً في حياة العالم، فالمسألة الأوكرانية أعقد بكثير مما تظهره نيران القصف التي تدوي في شتاء حزين على أوروبا، وهي ليست بروفا لحرب عالمية جديدة، كما أنّها أيضاً ليست نهاية الكوارث، فأتصوّر أنّ القادم أكثر خطراً وإيلاماً.
ربما أكثر من الغزو السوفييتي للمجر في عام 1956، وتشيكوسلوفاكيا في عام 1968، فقد عادت إلى الذاكرة الأوروبية مشاهد الحروب العالمية السابقة على قسوتها فى صور المهجرين والنساء والأطفال والمدن ، التي تسقط عليها الصواريخ بعدما كانت أوروبا قد نسيت هذه المشاهد، وكنا نحن في منطقة الشرق الأوسط، على مدى نصف قرن، نعتقد فقط أننا وحدنا من نعيش هذه التجارب، وأن انهيار الدول مقصور على مجتمعاتنا ومنطقتنا، الشرق الأوسط، وإفريقيا، أو دول العالم الثالث، وإذا بسيناريو جديد لم يكن يخطر على بال مؤلف درامي أن يكتبه.
ليس سراً أن طموح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صور له أن بإمكانه في هذه اللحظة -التي يرى فيها أوروبا مفككة- الإطاحة بالنظام العالمي، وربما تكون الحرب في أوكرانيا مجرد ضربة البداية، ولم يكن تفكير بوتين هذا بالقريب، فلو رجعنا للعام 2007، نجده أعلن في مؤتمر ميونيخ للأمن، أنّ الأحادية الأمريكية لم تعد ممكنة، وأخذ عاماً بعد عام في إحياء نزعة القومية الروسية،وقرر تشييد بناء أوراسيا بما يناسب خصوصيات الموقع الروسي بين آسيا وأوروبا، كما يراها هو، ليصبح منافساً حقيقياً للأحادية الأمريكية.
العالم الآن يعيش فى أكره صيغة، وهي الحرب بحساباتها ومفاجآتها وأحاديثها المزعجة ونتيجتها المدوية فى قلب أوروبا، والتي ستكون مؤثرة فى مسار التاريخ الإنساني الأوروبي، الآن نسمع عن تشجيع الانفصال والتقسيم، وقد بدأت روسيا هذا الخطاب باعترافها بالانفصاليين فى إقليم دونباس،ولم تضمهما إلى روسيا ، واعترفت بدولتين، أو جمهوريتين (دونيتسك ولوجانيسك). بلا شك سيكون العالم من بعد هذه الحرب أمام خريطة أمنية جديدة، لاسيما في أوروبا، حيث لن تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، وسيتم إعادة النظر في كل شيء، أو على الأقل هذا ما ينبغي أن يحدث، فلقد كسرت الحرب في أوكرانيا صلاحية مصطلح الأمن والاستقرار في أوروبا وأنهما يأتيان بالمجان.
إذا سقطت العاصمة الأوكرانية كييف بالفعل، فستكون روسيا قد وسّعت بشكل كبير حدودها البرية مع الاتحاد الأوروبي، وهذا أمر مقلق لأعضاء الاتحاد، حيث تشترك فنلندا في حدود برية ضخمة مع روسيا، والأساطيل الرومانية تشترك في البحر الأسود مع البحرية الروسية، ولكن إذا ما أرادت كييف استمرار الصمود اعتماداً على المساعدات العسكرية الوفيرة التي ترد إليها وإجبار القوات الروسية على الخروج، فإنّ بوتين "المغرور"، الذي لا يمكن التنبؤ بما سيقدم عليه، قد يلجأ لسيناريو أكثر خطورة، ولا ننسى أنه بعد شهور من قوله إنه لن يغزو أوكرانيا فعل ذلك، وهنا أتذكر ما قالته مستشارة البيت الأبيض السابقة لشؤون روسيا، فيونا هيل، لمجلة بوليتيكو الأمريكية، قبل أيام ، عندما سئلت أيام، عندما سُئلت عما إذا كانت تعتقد أن بوتين سيستخدم أسلحته النووية، فقالت: نعم، سيفعل.
على الجانب الآخر من المعادلة، كانت الولايات المتحدة التي احتفلت بعد سقوط جدار برلين بانهيار عدوها التقليدي عدوها التقليدي السوفياتي، ودشّنت النظام الدولي الحالي بقطبيةواحدة وعلى مدى أكثر من 20 عاماً ، نجحت في ترسيخ مشروعها للهيمنة العالمية، ما تزال تعيش على تركة انتصارها في الحرب الباردة رغم أنها لم تكن في أفضل حالاتها، فقد دخلت حروباً، وخرجت منها منهكة، وتحملت فواتير وأخطاء سجلت عليها، ويبدو أنها لم تعد قادرة على حسم الصراعات بمفردها، وإن كان نظامها السياسى قادراً على تصحيح أوضاعه، كدولة عظمى، تملك نظاماً سياسياً متكاملاً قادراً على تدارك أخطاء وكوارث الرؤساء، سواء كانوا ضعفاء أم أقوياء، أما الاتحاد الأوروبي، وهو أحد أعمدة النظام الدولي الحالي، فعانى تحديات عديدة تمسّ وحدته ومستقبله، لعل أبرزها، فقدانه المملكة المتحدة، ولاشك أن كل المعطيات السابقة كان لها تأثير في تحركات الرئيس الروسي بوتين.
صدمة عودة الحرب إلى القارة العجوز ستؤدّي حتماً إلى النظر بجدية في الكثير من الملفات، وهذا ما بدأ يحدث بالفعل، فقد شهدنا توحيد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، البالغ عددها 27 دولة، إذ وافق الاتحاد ليس فقط على أقوى حزمة من العقوبات على دولة أخرى، ولكنه وافق أيضاً على شراء الأسلحة وتوريدها إلى الأوكرانيين، وأعلن الإنفاق العسكري داخل دول الاتحاد الأوروبي، في خطوة نادرة منذ الحرب العالمية الثانية، وبدا واضحاً أن هناك نية لتقوية الروابط بين ضفتي الأطلسي ، أي بين أوروبا وأمريكا الشمالية ، ولا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعيد ترتيب أوراقها بعد هذه الحرب على صعيد خريطة التحالفات وما تفرضه الجغرافيا السياسية في الأماكن الأكثر حساسية على الخريطة، وحتى قبل انتهاء الحرب لاحظنا أنه تم اتخاذ قرارات في جميع أنحاء القارة لم يكن من الممكن تصورها قبل أسابيع قليلة.
إن الغزو الروسي لأوكرانيا يطرح السؤال: كيف يتم ضمان عودة الدول إلى حالتها الطبيعية بعد الحرب، فحالة الحرب الساخنة والباردة لم تعد صالحة للتعايش في عالمنا، وفي المستقبل؟
وأخيراً: هل سيتم إعادة النظر في النظام القانوني للمؤسسات الدولية المناط بها حماية السلم والأمن الدوليين، مثل مجلس الأمن، بحيث لا تملك قوة دولية بعينها قوة قتل القرار الدولي حينما تكون طرفاً في صراع؟
ليفانت - د. حسام فاروق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!