-
إعادة إعمار القلب.. ووطن على شفا حلم
عميقة تلك المسافة في وضح العبارة "التاريخ يكرر نفسه"، فدروس التاريخ مهمة لمن يريد العبرة، لأنَّ التجارب المؤلمة للبشرية قد أثقلت كاهل الحلم، فالحلم وإن كان يتسع فهو لن يمتد لأكثر من وجع. اليوم، وفي آخر خبر نحاول أن نتفادى ذلك العالم الذي يحاول أن يُغرِق مراكبنا الأخيرة، نحن الذين تقطَّعت بنا السبل على عتبات العالم المصاب بالانفصام، حبٌّ ولا حب.. نحن هنا مرة أخرى، لكي نأخذ الدرس ذاته في كل مرة، بالحب فقط نصل، فهل فشلنا في اختبار القلب كسوريين، أم أنه لازال لدينا فرصة لإثبات بأن القلب السوري لازال يتسع للسوري، وأنه لاجدوى من ذاك العالم المنافق إن لم نطبق قواعد العشق على ذواتنا؟.
ماذا أقول أنا السورية و"ذاك السوري"، عندما أكتب عن حلمي ووطني؟ وهل يأخذ التاريخ بشهادتي؟ ماذا بقي لكي لايحدث؟ فكل شيء قد حدث، ولم يبقَ حدث ينتظر دوره، لدرجة أننا عندما جربنا كلَّ الموت، بقي أمامنا أن نخشى من "كورونا"، ربّما لأنّنا لازلنا نحتفظ ببعض الحب ونخشى عليه أن يذهب قبل أوانه، فنحن السوريون -بكل ملكات السيادة- مدانون أحياناً، فالذين حرسوا حدود بلادهم كلُّهم ماتوا، وبقيت رسائل عشقهم لمنْ يحبون. نسينا أسماءهم، ولم يذكرهم التاريخ لأنَّهم كانوا جنوداً مجهولين، أطفأوا أعمارهم في حراسة ذلك الليل البعيد جداً عن قدراتنا في اختصاره، لكن وجدنا في رسائلهم أبجدية حب الوطن وحب الحب ذاته.
ونحن كبشر طبيعيين لانحلم بأكثر من عالمٍ، ولانحلم بأكثر من كرة أرضية واحدة، ولا أكثر من قمر، ولا يهمنا كم من النجوم لم يعد مرئياً بالنسبة لنا، لأننا ببساطة، مبنيون على ولائنا للعاطفة، لذلك لانحلم بأكثر من زهرةٍ بعد حرب، وقد لاننسى جراح تلك الحرب، لكن وجود تلك الزهرة يؤنسنا، لأنها دليلنا بأن الحب قد ألغى الحرب فعلاً. نحن نريد عالماً طبيعياً جداً أساسه الحب, فالأشياء التي تبدأ بالحب، لاتذهب إلى الجحيم. الحب والحرب قد يجتمعان، لكن إحداهما قد يلغي الآخر أو ينهيه. إنها ليست معركة كسر عظم، بل هي حقيقة. هو صراع خارج إرادتنا كبشر، فالكون بدأ بالشر مذ قتل قابيل هابيل، ولكي ينتهي العالم لابد أن يحدث الشر، لكن جنباً إلى جنب مع الحب. ولو كان الحب موجوداً منذ البداية لما حدث كل ذلك، لكنه القدر.
في العالم شيئان، حرب تُشنُّ وإعادة إعمار بعد حرب. تبادل أدوار ليس غريزياً، لكنه صار قدراً، وكأنَّ العالم ولد ووجد على أساس هذه الفرضية التي هي ليست فرضية بالأساس، بل حقيقة قد حدثت ومازالت تحدث.
ولمَّا ينتصر الحب الذي هو أصلاً غريزة البشر، فالإنسان بطبعه يميل للبقاء وحب الآخر، ولايميل للانتهاء ونبذ الآخر. فمَنْ أحرق مراكبنا السورية وأطفأ قناديل الموانئ؟ إننا لانزال نأمل بعودة النهار إلى طباعه الأولية، بفسحة الأمل على خرائط الحرية.
أتساءل عن الحب وأنا أرى أجيالاً سورية تنتهي في خيام البرد والموت والوجع والتشرّد، وكانوا قد وعدوهم "أن يعودوا"، لم يعد أحد إلى مدرسته أو بيته أو كتبه أو ذلك الحائط الذي بدأت منه الحكاية... فنحن المذنبون بحق أنفسنا، كان يجب أن ندافع عن قضيتنا، عن ثورتنا بكل حب. نعم، كان ينقصنا الحب... فالحب أداء وليس كلام، تطبيق وليس نظرية، حقيقة وليس افتراض. فعندما نرفع شعاراً مفاده أننا "شعب واحد"،شعب سوري واحد، فهذا ربما أبلغ ماعرفته الثورة وهو بالفعل، ومن جوانب كثيرة ليس خيالاً أو افتراض. نعم، نحن شعب واحد، لكن قلوبنا شتَّى.
فعندما لانعترف بأخطائنا التي أنهكت جسد الثورة وألبستها التهم والافتراءات فهذا ليس حباً، وعندما نختبئ بأخطائنا خلف غيرنا ونلقي اللوم على سوانا بسبب تقصيرنا، فنحن لانحب ولانجيد الحب، بل نجيد الهروب. عندما ننقسم شيعاً وأحزاباً وجماعات -كمعارضين- فلاحب هنا, بل هو الكره ذاته، لأننا هنا لانمارس تعدد الرأي بل الرغبة والتفرد والبروز والظهور وحب التفوق والإدارة، وليس إرادة الحب أو تفوقه.
إننا أنانيون عندما يقتضي الحب، لامنتمون عندما تقتضي الحقيقة. عندما ينقسم الشعب بين طبقة تسكن الخيام بين مخالب البرد والجوع والقهر، وطبقة تتمتع بأشعة الشمس على الساحل، فأين الحب؟ عندما يحتفل الحي العامر الذي يقع مباشرة بجانب الحي المدمَّر في المدينة نفسها، بعيد الحب مثلاً، ويتلوّن بالأحمر، فأين الحبُّ..؟! نعم، نحن شعب واحد، شعب سوري واحد، وكما قالت الثورة بشعارها النبيل الجميل "الشعب السوري واحد" هو بالفعل كذلك، لكن ينقصه الكثير من الفعل. ربما لو كان الحب موجوداً أصلاً، لكان وفَّر علينا فاتورة الدم الباهظة.. فاتورة الدمار والخراب.
نعم، بناء المدن سهل، وإعادة إعمارها أسهل رغم صعوبته، لكن إعادة إعمار القلوب هو الأصعب في حكايتنا وفي كل حكايات الكون.
اليوم، في قضيتنا السورية التي صارت مأساة العالم بامتياز، ضاع جيل، بل أجيال سورية كاملة، تدمَّرتْ أحلامها، وضاع مستقبلها بين الأمل والانتظار الطويل. ولازالنا ننتظر صحوة الضمير الجمعي للبشر، وصحوة قلوبنا أيضاً، فالحروب إما أن تلغيك كإنسان إلى الأبد، أو تعيد صياغتك لتعطيك القوة وكأنك بالفعل نهضت من ركامها منتصراً. في أوربا عندما قرروا إعادة إعمار بقايا حروبهم، وخاصة بعد الحربين الأولى والثانية، كان أحد الجوانب يرتكز على تقنيات ومخططات دقيقة للعناية بالجانب الخاص بالمدن الأثرية.
وكيف يمكن إعادة بنائها دون أن تفقد طابعها القديم الموروث، فهذا يحتاج إلى عناية خاصة كونها مدن أثرية ترتبط بجانبين، التاريخي والرومانسي، فالمدن القديمة تحطمت بشكل كامل في ألمانيا مثلاً، لكن تم إعادة بنائها، لكن الإنسان ليس كالمدن، لأنَّ مرحلة بناء الإنسان هي المرحلة الصعبة في حكايتنا. نعم لقد غاب الحبُّ كلُّه وحضر كلُّه أيضاً. وكان ينقصنا أن نحب بعضنا بكل إتقان، وأن يحبنا العالم كي تنتصر قضيتنا، وكان ينقصنا ذلك كله كي نقرر لحظة انتصارنا دون أن يكون مصير حياتنا أو موتنا معلق بقدر لايحبنا، فالقدر يصنعه أصحابه، فإن صنعوه بحب انتصروا.
في مأساتنا التي عرَّت عيوب انتظارنا للفرح، يبدو ونحن ننتظر محطة الفرح الأخيرة، فشلنا في أن نُؤْثِر الآخر فينا.. الآخر فينا هو الوطن والآخرون من أخوتنا في المواطنة، نحن لم نرحل أبعد من ذلك، ولم نرسم الشعاع الأخير قبل سقوطه عمداً.. نحن مثل حرب ونتيجتها.. أو مثل ريح وانتظار هدوئها.. نحن الذين نبحث عن الحب لنعيد صياغة ذاتنا قبل أن نجمع حجارة شوارع مدننا المنكوبة التي كانت جميلة جداً، نحن نحتاج إلى إعادة إعمار القلب، بعدها كل شيء سيغدو سهلاً.
ليفانت - أسماء شلاش
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!