-
الجولاني الذي لا يتوقف عن الكذب
الضرورات تبيح المحظورات؛ وفي حالة "أبو الفاتح الجولاني"، الضرورات هي أن يحكم، وهيئتُه، محافظةَ إدلب، ويطمحَ لحكم سوريا كذلك، والمحظورات هي الكذب طيلة المقابلة مع الصحفي الأمريكي مارتن سميث. الأخير بدوره يكذب في أسئلته، التي لم تحاصر الجهادي أبداً؛ فليس بخافٍ أن جبهة النصرة سحقت كافة فصائل الجيش الحر في إدلب خاصةً، ووضعت المئات منهم، ومن الناشطين السلميين، وأبزرهم وثاب عزو، في السجون، ولا يُعرَف مصير الأخير منذ أكثر من خمس سنوات، وفقط لأنهم يتبنون رؤية وطنية للثورة السورية، وتعاكس الرؤية السلفية للجولاني ورفاقه.
كذب الجولاني في موضوع حماية الأقليات، وأنّ غير المسلمين عاشوا مع المسلمين طيلة 1400 سنة، بينما جبهة النصرة هَجّرت المسيحيين والعلويين والشيعة وضيّقت الحياة على الدروز في إدلب، ومجزرة قرية "قلب لوزة" التي راح فيها أكثر من 20 شخصاً عام 2015 ما زالت حاضرة، وفقط لأنهم من الدروز.
لم تتحالف فصائل جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام مع قوىً غير سلفية، ولم تعترف بحكومة تابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ورفضت أية أشكال من الاستقلالية لمنظمات المجتمع المدني، وعن طريقها تتمّ كافة العمليات التجارية وجباية حركة المعابر والضرائب والتجارة مع مناطق قسد والنظام وتركيا والفصائل؛ فلقد أقامت إمارة سلفية ظلامية، تستند إلى تأويل جهادي للقرآن الكريم وللسنة ولكثير من مشاريخ الأصولية في التاريخ الإسلامي.
لماذا يكذب الجولاني؟ طبعاً لا نعلم إن كان يحوز على خصيصة شخصية في ذلك، وعدا ذلك فالأمر يستحق التحليل. في سوريا، نظام دمشق محميٌّ من قبل الروس والإيرانيين، وهناك الفصائل التابعة لتركيا، وهناك قسد المحميّة من الأمريكان، وبالتالي يبحث الجولاني عن حمايةٍ أجنبية له، ولا يكفيه أن تشمله تركيا بعطفها، وهنا لا نستبعد أن تكون هيئة تحرير الشام أداة سياسية وعسكرية لأجهزة استخبارات عديدة، وضمن ذلك نرجح وجود علاقاتٍ سريّة مع الاستخبارات السورية أو التركية أو الخليجية، وربما الإيرانية. ألم تقضي جبهة النصرة على الفصائل المناهضة للنظام، ألم ترفض أيّة تحالفاتٍ عسكرية مع الفصائل وفي كافة الأراضي السورية، ألم تتخلى للنظام عن مساحات واسعة في عام 2019؛ ألم تبادر مؤخراً إلى سحق كافة المجموعات التي تهاجم القوات التركية أو السورية، وتحت حجج أنها مجموعات جهادية أو متطرفة؛ ألم تجري صفقات كما قام داعش مع النظام، وتمّ ترحيل مجموعات تابعة لحركة فتح الشام، وهي بزعامة الجولاني، وهي التنظيم المهيمن على هيئة تحرير الشام، من درعا والقلمون الغربي وسواها.
إذاً الجولاني يبحث عن حماية أجنبية، ومَنْ أفضل له من أمريكا في ذلك كما يتوهم، سيما أن تركيا تحمي إمارته، وهي ليست بخلاف كبير مع أمريكا. طبعاً يتوهم الجولاني في إجاباته أن الصحفي الأمريكي سيوصل تحقيقه الوثائقي إلى الإدارة الأمريكية، أو أن الأخيرة أرسلت الصحفي لحسابها. وبالتالي "يثرثر" كثيراً، حول مواقفه التاريخية، وأنه لم يعادِ الأمريكان، ولم يقم بأيّة عمليات خارجية، ولم يتعرض للمصالح أو الأفراد أو الجنود الأمريكان بطلقةٍ واحدة أو بضربة كف. وفي حال جرى ذلك، فالأمر يتعلق بأفرادٍ انشقوا عن هيئته، أو انضموا إليها ونفذوا عمليات، بينما هم دواعش.
الجولاني يعلم أنه سيُجتث في حال حدوث أيّةِ تسويةٍ تخص الوضع السوري، ويعلم أيضاً أن تركيا تتبنى الإخوان المسملين، وأن الفصائل التابعة لها في عفرين أو الباب أو جرابلس وسواها، ستشطب بدورها حينما تتحقق التسوية، ولهذا فهو يبحث عن قبةٍ حديدية تحميه، ويمثل مصالحها. لا شك أن الرجل طامحٌ بشدّةٍ، والتغيير في مواقفه وضد رفاقه الجهاديين يثير العجب، ولكنه يكثر من الأكاذيب، وهذه لا تعارضها أمريكا بدورها، رغم أنها لم تحذف جائزة الملايين العشرة لمن يدلي عن مكانه.
إذاً، يغيّر الجولاني جلده كثيراً، ولكن ذلك لن يغير من توصيف حركته كإرهابية، ولن تحذف أمريكا اسمه من قائمة القتل. طموح الجولاني يشبه طموح ابن لادن ببداياته، حينما ذهب إلى أفغانستان، للجهاد ضد السوفييت، فسمي حينها بالمقاتل من أجل الحرية، وتم دعمه من قبل السعودية ومصر وباكستان ودول أخرى. هذا لن يتكرّر في سوريا؛ ففي سوريا هناك روسيا، وهناك إدارة جديدة في أمريكا، وهناك الحرب على الإرهاب. إن ملف الجهاديين، المحروقة أوراقهم خاصةً، ليس متروكاً للجهاد من جديد، وتبديل الجلد لا يفيد كثيراً، وبأحسن الأحوال يمكن أن ينقل الجولاني إلى مكانٍ آخر وباسم جديد، أو يعود إلى حضن النظام في حال كان عميلاً له، وهذا مما لا يُستبعد.
لنفترض أن مراكز النفوذ الراسخة في سوريا ستتعزز، وأن الجولاني سيستفيد من ذلك في هذه الأوقات، وهذا بالضبط ما يفعله، عبر الحوار مع الصحفي الأمريكي، وما ذكرناه من قبل، ولكن ذلك يتطلب الكثير منه، وليس فقط التوافق مع نتائج سوتشي، الروسي التركي، ولا بقمع بعض الحركات الجهادية تحت سلطة إماراته؛ فهناك ضرورة الطاعة العمياء لتركيا وفقاً لما تفعله الفصائل، وهذا مما لن تقبله هيئة تحرير الشام، وكذلك هناك منافسة الإخوان المسلمين السوريين، الطامحين إلى الحكم منذ الثمانينات وليس مع بدء الثورة الشعبية في 2011. وبالتالي ترسيخ مناطق النفوذ قد تُقوّي دور هيئة تحرير الشام، ولكنها تفترض استبدال حركة الجولاني بحركة الإخوان المسلمين، سيما أن الحركة الأخيرة هي القوة السياسية الموثوقة من قبل الأتراك حينما تبدأ المشاورات بخصوص تسويةٍ لتشكيل النظام السوري القادم.
هل يتمكن الجولاني وهيئتُه من تحقيق مقبولية دولية وإقليمية؟ وهذا فحوى التغييرات التي يجريها ودون توقف! إن تلك التغييرات تستفيد منها تركيا، حيث تضعف القوى الجهادية وتحقق مقبولية لدى عناصر هيئته لقبول التبعية لها، وكذلك يستفيد منها النظام، وقد تخلصت هيئة تحرير الشام من جهاديين كثر وقبلهم من فصائل الجيش الحر. والجولاني متهم بذلك من قبل قيادات جهادية ومن قبل منظمات حقوقية كثيرة. أفعال صاحبنا وهيئتِه لا شك أنها تُلقي عليه عيناً متبصرة من أجهزة الاستخبارات الإقليمية والأمريكية خاصة، ولكن ذلك لا يمكن أن يحقق له المقبولية.
نهاية الجولاني لن تختلف كثيراً عن ابن لادن أو الظواهري أو الزرقاوي أو البغدادي، وعن قياديين كثر في الحركات الجهادية. النتيجة ذاتها ستكون إن عاد إلى حضن الاستخبارات السورية أو سواها. الآن هناك رفض كبير لتبدلاته في الوسط الجهادي، وهو مرفوض في الوسط الثوري والشعبي في إدلب وبقية المدن السورية. لم يعد الرجل مجهول الهوية، فهو أحمد الشرع، وله تاريخ محدد، ذكره في لقائه الصحفي، وبعنقه الكثير من الدماء والمظلوميات. وبالتالي ليس للجهادي إلّا القتل، ومهما بدّل من جلده، واقترب تارةً من أمريكا، وأخرى من إيران، وثالثة من النظام ورابعة من تركيا. الجولاني لن يكون أمريكياً كما كان أسامة بن لادن ذات يوم؛ إنه على قائمة القتل وسيظلّ إلى استنفاذ دوره التخريبي، في الثورة، وفي سوريا.
ليفانت - عمار ديوب
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!