الوضع المظلم
الإثنين ٢٣ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الحداثة وما بعد الحداثة
Capture


من المعلوم أنّ كلمة الحداثة جاءت من كلمة (Modo) التي تفيد في اللغات الأوربية حديثاً في هذا الزمن، ولكن الحداثة لها مصطلحاتها الخاصة بها، فـ(Modernity) تعني الحداثة، من كلمة (Modern) حديث و(Postmodernity) تعني ما بعد الحداثة، أما (Modernism) فهي الحداثية… إلخ.


في الحقيقة ما يزال تحديد زمن ظهور الحداثة موضع أخذ ورد، وخلافاً مستديماً بين أقطابها والمهتمين بها. فقد يرجعها البعض إلى تجريبية (إميل زولا) الذي جاء على ذكر معنى التجريب في كتابه (الرواية التجريبية)، وبعضهم يرجعها إلى (نيتشة) أو إلى (ولتر بيتر)، وغيرهم من المفكرين الذين عاشوا في السبعينات من القرن التاسع عشر.


ومن المعلوم أنّ الحداثة ترتكز على ثلاثة مفاهيم أساسية هي: العقلانية Rationalizme، أي أنّ لكل شيء سبب معقول، ثم الذاتية، sebjevtivite، وهي تشكل قاعدة الفلسفة، أي رؤية ذاتية للعالم، والعدمية، Nihilizme، أي لا قيمة للقيم في عهد الحداثة. (مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة- تعريب – محمد الشيخ – ياسر الطائي – دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت- ص- 13).


في الحقيقة ظهرت فلسفة الحداثة في أوائل الفرن السادس عشر، وانتهت في نهاية القرن التاسع عشر، أو في أوائل القرن العشرين، حيث تعتبر القرون 17- 18- 19 من مراحل فلسفة الحداثة، لتبدأ بعدها مرحلة ما يسمى بما بعد الحداثة، في عام 1979، كما سنرى ذلك لاحقاً، لكن يرفض الفيلسوف الألماني (هابرماس) هذا التسلسل الزمني ويعتبر أنّ مرحلة ما بعد الحداثة لم تحن بعد، وإنما ما زلنا نعيش في مرحلة الحداثة أو أنّها مشروع لم يكتمل بعد، مع وجود بعض الخلل في العقل الحداثي، كالأداتيّة مثلاً، وهو بهذا القول يعتير أنّ الحداثة تعرّضت بالفعل لتبعثرات قوية في مسارها، كما أنّ (هيجل)، الذي هو في الوسط بين مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة، قد عيّن أرضية الحداثة، وقال بأنّ أعظم اكتشاف للفلسفة هو الكوجيتو (الديكارتي) الذي قال: (أنا أفكر إذا أنا موجود)، أي أنّه أعطى الأولوية للفكر، يعني العقل، على ما عداه في منطق الوجود، وبقليل من التمعن نرى أنّ الحداثة تقوم في بنيانها ومنطقها الرئيسي على العقل الذاتي، وهو ما يعني إيماناً راسخاً بمقدرة العقل على فهم كل شيء وإنجاز كل شيء، وعلى الثقة الكاملة في إمكانية العقل البشري. أو كما قال (هيدغير) إنّ الحداثة هي الفلسفات الذاتية أي العقلية. بالمقابل ترى التجريبية أنّ العقل لوح فارغ وصفحة بيضاء، والمعرفة هي نتاج الذات البشرية، لأنّ الحواس هي التي تنقل معطيات الإدراك إلى الداخل فتنتج المعرفة بإمكان ذاتي بشري ونفي إمكانيّة وجود القبلي والفطري فيها. (بوعزة، الطيب– الحداثة وما بعد الحداثة– محاضرة في الخليج)


وما يقوله (ديكارت) هو نوع من تأليه العقل لديه، وهذا هو جوهر الحداثة، وهو أيضاً نوع من الفيتشية وتصميم العقل، فالعقل مع الديكارتية أصبح إلهاً بدون منازع. لكن يكتشف فيلسوف آخر هو (كانت) نقص العقل ومحدوديته في الظاهر فقط، وأنّه لا يملك القدرة على تجاوز هذا الظاهر نحو ما وراء الوجود أو الميتافيزيقا. وهذا الانتقاص من قيمة العقل سيدخلنا فيما يسمى بما بعد الحداثة، ولأنّ تيارات فلسفة الحداثة وجميع فلسفات النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين حامت حول فكرة واحدة، هي إسقاط العقل من مرتبته، وهذا هو أيضاً منطلق نحو ما بعد الحداثة، وهذا هو معنى التجاوز وتلك الأرضية التي تنطلق منها، أو هذه هي الأرضيات المتقافزة التي انتقل إليها الوعي، لأنّ ما بعد الحداثة ترفض تأليه العقل وترفض أن تستقرّ على أرضيّة ثابتة.


كما بدأ التشكيك بالعقل من قبل الفلسفة التجريبية التي قالت بنقص العقل وإمكاناته المحدودة، ويمكن اعتبار هذا من جانب آخر بداية الدخول في مرحلة ما بعد الحداثة، وكما قلنا، فقد عملت بعض التيارات الفلسفية على التجاوز أو تجاوز الحداثة، ولهذا فقد عبّر العالم النفسي (سيجمويند) فرويد عن مقولات ما بعد الحداثة بقوله: إنّ العلوم البشرية انتكست في تاريخ العلم ثلاث مرات، ونضيف بل أربع مرات وهي:


-الفلكي كوبرنيكوس، عندما رأى، رغم احتجاجات الكنيسة، بأنّ الأرض ليست مركز الكون، بل هي نقطة باهتة في هذا الفضاء الواسع وتدور حول الشمس والتي هي مركز الكون.


-دارون، جاءت الانتكاسة التالية للحداثة من عالم الأحياء البريطاني (دارون)، فقد كان الإنسان قبل دارون يظنّ أنّه متميز عن الحيوان، فجاء دارون ليقول إنّ الإنسان هو سليل كائن حيواني، وإنّه ليس إلا درجة في نسق التطور الحيواني، ينحدر مع القرد من جدّ مشترك.


الماركسية، التي دخلت في مرحلة ما بعد الحداثة من أوسع أبوابها، حينما أعطى الأولوية للعلاقات الإنتاجية الاقتصادية على العقل، وأنّ العقل ذاته نتاج هذه العلاقات، وهكذا أصبح العقل مع الفلسفة الماركسية أسير أدوات الإنتاج والوجود الاجتماعي، وهذا بحدّ ذاته انقلاب على العقل وزعزعة لمكانته، ونزول له من عليائه.


والأخرى أنا صاحبها، يقول فرويد “حينما عملت ثورة في عالم البسيكولوجيا البشرية وأخذت البسيكولوجيا دور العقل بل سيطرت عليه وأخفته، وإن العقل ما هو إلا جزء بسيط من كينونة النفس البشرية”، أي يقول فرويد ضربت الحداثة من مدخل سيكولوجي أيضاً بعدما ضربها ماركس من مدخل اقتصادي. (نفس المصدر السابق)


وفي نهاية القرن التاسع عشر، ظهر فيلسوف آخر هو (نيتشيه) توفي عام 1900، والذي قال: “إنّ أكبرخطأ في تاريخ البشرية هو الأفلاطونية، والتي منها بدأ إعلاء العقل على الغرائز، ثم جاء (هيدغر) وقد أعلى من شأن اللغة على العقل –كما رأينا– والذي قال بأنّ اللغة تتحكم في العقل، وبوجود مقدمات لها أو إرهاصات (كانتية)، الذي أنزل ضربة قاصمة بالعقل، وبها أدخل العقل إلى ما بعد الحداثة التي لا تعترف بمقدرة العقل في البحث في العالم الماورائي، وذلك حينما قال: “إن العقل ليس في وارد أن يتعرّف على عوالم الميتافيزيقا وجعله مشدوداً إلى العالم الحسّي وحده”.


 


ليفانت – خالص مسور







 



العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!