-
الخطاب السياسي العراقي بين التصعيد والتهدئة
يرتبط الخطاب السياسي على الدوام بالسلطة، إذ يعد أهم الأدوات التي تلجأ إليها القوى السياسية للوصول إلى مراكز القرار، ولإضفاء المشروعية على سلوكها ومحاولاتها، وهو حقل للتعبير عن الآراء واقتراح الأفكار والمواقف حول القضايا السياسية من قبيل شكل الحكم واقتسام السلطة والفصل بين أنواعها.
ويعد خطاباً إقناعياً يهدف إلى حمل المخاطب على القبول والتسليم بصدقية الدعوى عن طريق توظيف الحجج والبراهين، ليتوصل إلى إقناع أكبر عدد ممكن من الناس بأفكاره ومناهجه في التداول السياسي والعمل الحزبي وتحقيق أكبر مساحة لتوضيح الفكرة، وبالمقابل يحتاج الشعب إلى الخطاب السياسي، فمن خلاله قد يعقل أموراً كثيرة مهمة طالما أسند الأمر إلى أشخاص سلم لهم مقالد التدبير في الدولة والمجتمع، فهو يحتاج إلى مزيد من الإيضاحات لمشاكله اليومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ويراد بالخطاب السياسي عادة خطاب السلطة الحاكمة أو الحركات والأحزاب التي تحمل برامج سياسية، أي أنه لا يقتصر على التصريحات والبيانات الرسمية، بل يشمل الخطابات الصادرة من الزعامات السياسية وإن كانت صادرة بصيغة حزبية ما دامت تخص السياسة العامة للدولة والشأن العام، لذلك فالخطاب السياسي سيكون شاملاً للقادة والمخولين بالتصريح، فضلاً عن أعضاء المجالس النيابية والأعضاء الفاعلين في العملية السياسية بشكل عام.
ويرتكز الخطاب السياسي عادة على ثلاثة أعمدة:
أولها: الرسالة أو مضمون الخطاب، فالخطاب السياسي موجه لتحقيق غرض وقصد سياسي يؤثر في المتلقي وإقناعه ويحمل أجندة سياسية يسعى إلى ترسيخها، ولذلك يستخدم الخطاب السياسي الرموز والدلالات للتأثير على عواطف المخاطبين بغية تحقيق أهدافه وغايته.
وثاني مرتكزات الخطاب السياسي هو المرسل للخطاب، وهم عادة (النخبة السياسة)، فالمرسل له دور أساس في التأثير على الجماهير وحشدهم في أوقات السلم والحرب، وعادة ما يكون الخطاب السياسي في صيغة كلام شفهي يلقيه سياسيون أمام جماهير ويتناولون فيه أمور الحكم وقضاياه ويكون له دور كبير في التواصل بين النخب السياسية والشعب أو النخب السياسية فيما بينها.
وثالث مرتكزات الخطاب السياسي هو المتلقي، فالارتباط الوثيق بين الخطاب والسلطة ليس مجرد تخطيط وتنظيم من قبل السلطة فحسب، وإنما علاقة تجمع بين السلطة وأنماط الهيمنة الاجتماعية، حيث يحرص النظام السياسي على مدّ شبكات واسعة للاتصال بين الحكام والمحكومين لغرض تحقيق الانسجام بينهما، وتستخدم في ذلك أدوات مؤثرة، مثل التوجيه الإقناعي والضغط المتعمد والتنشئة السياسية لغرض توجيه حياة المتلقي وسلوكه الاجتماعي ووضعه تحت تأثير المرسل وسلطته.
وقدر تعلق الأمر بالوضع السياسي العراقي بعد العام 2003، فقد شخصت الأوساط الأكاديمية والإعلامية خللاً واضحاً في خطاب القوى السياسية تمثل بفشله في مواكبة التجربة الديمقراطية الوليدة وتنميتها، بل على العكس من ذلك، أسهم في إضعافها وتعثرها لما انطوى عليه من مثالب وعيوب، كان أبرزها كونه خطاباً ارتجالياً متعدداً مأزوماً، تسقيطياً ماضوياً، وبالتالي لم يرقَ خطاب القوى السياسية ومن يمثلها إلى أن يصبح ممارسة اجتماعية تسمح بتحرير الأفكار ويساهم في غرس قيم سياسية وثقافية جديدة في مرحلة مهمة من مراحل التحولات السياسية المصيرية التي يشهدها العراق، بل لم يرسخ نظاماً فكرياً جديداً يحدد العلاقة بين السياسي والمواطن، ولم يكن بالتالي داعماً لحقوق المواطنين وحرياتهم.
وبعد مرور ما يقارب العقدين على التغيير، وبعد الأزمات العديدة التي هزت أركان النظام الجديد ودقت ناقوس الخطر لأكثر من مرة، كان من المفترض أن يعي السياسيون الأهمية البالغة التي يحظى بها الخطاب ودوره الحيوي في المجتمع، والعمل على تجاوز عيوبه وأخطائه، والاستفادة من التجارب العالمية الرائدة التي ركنت إلى خطاب سياسي صحيح بتحرير الأفكار والمعرفة وتطوير الوعي وخلق دائرة سياسية قوية وطويلة الأمد، غير أن الواقع يشير بشكل واضح إلى استمرار الخطاب السياسي العراقي في تخبطه وعدم انضباطه وعجزه عن الارتقاء إلى مستوى التحديات، وكانت الأزمة الأخيرة خير شاهد على ذلك التخبط والضعف والعجز والفشل، حيث انحدر الخطاب إلى أدنى مستوياته من خلال استخدامه لغة التهديد والاتهامات المتبادلة والتشدد والانغلاق وتغذية عوامل الانقسام والفرقة، وهذه المرة ليس بين أبناء المكونات المتعددة، بل بين أبناء المكون والمذهب الواحد حتى أصبح ينذر بصراع دموي، بل تسبب بالفعل بإراقة الدماء وسقوط ضحايا من الأطراف المتنافسة، الأمر الذي يعكس القصور الواضح في ذهنيات أغلب الساسة والمتصدّين للمشهد السياسي، بل يبعث على اليأس والخيبة لدى المتلقي من قدرتهم على تجاوز خلافاتهم الشخصية ومصالحهم الوقتية للعبور بالبلد الى بر الأمان.
إن المشاكل والمثالب التي يعاني منها الخطاب السياسي العراقي الراهن، والآثار التي نجمت عنه، تؤكد ضرورة تطويره وتجديده لينهض بدوره الحيوي في معالجة الوضع العراقي واستعادة ثقة الناس بالنخبة والعملية السياسية، لا سيما وأن السنوات السابقة والأحداث التي شهدتها قد أدت لاتساع الفجوة بين المواطنين والسياسيين وعم الثقة بالوعود التي تطلقها القوى المسيطرة على المشهد السياسي وتراكم المشاكل على المستويات كافة، سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية وحتى التربوية.
لذلك يتوجب على القوى والنخب تجديد خطابها ومراجعة أسسه وركائزه ومضامينه إذا كانت ترغب بالفعل في استمرار وجودها في المشهد السياسي، وعليها أن تدرك أن الخطاب السياسي لا بد أن يقوم على أسس ومستويات ووظائف وأهداف محددة، وعملية تجديده وثيقة الصلة بإنتاجه وتفعيله.
فلا بد للخطاب أن يرقى في أسلوبه وصياغته إلى مستوى التحديات التي يواجهها العراق والعملية السياسية، وعلى السياسيين وعي أهمية الخطاب ودوره في الارتقاء بالواقع السياسي بكافة المجالات من خلال إدراكهم لوظائفه البنيوية والتقريرية والعلاجية، فهو النافذة التي يطل من خلالها المتلقي على النشاطات السياسية المختلفة، وهو الحاضنة الأساسية لعمل الأحزاب والمنظمات السياسية.
وحتى لو ركنت بعض القوى والشخصيات على التخفيف من حدة خطابها السياسي، فإن انتهاج خطاب التهدئة والاعتدال وقبول الآخر عند اشتداد الأزمات، لا بد ألا يكون بأي حال من الأحوال حلاً مؤقتاً بانتظار مرور العاصفة، وبحسب الظروف السائدة، بل لا بد أن يصبح استراتيجية مستقبلية هدفها اعتماد الأسس العقلانية والعلمية في الخطاب والحرص على صياغته وفق أسس مدروسة وإعداده إعداداً صحيحاً، ينطلق من الحرص على مستقبل الوطن وعلى فهم ووعي متطلبات المحافظة على السلم المجتمعي، ويكون حلقة من حلقات دمقرطة النظام السياسي وتثبت مرتكزاته وتعزيز قدراته.
إن اعتماد الخطاب المعتدل المعد مسبقاً، الرصين، المتوازن، المدروس، العقلاني، الواقعي، الوطني، لم يعد ضرورة تحتمها التحديات والأزمات المستمرة التي يمر بها العراق فحسب، بل هو الضمان الأساسي لاستمرار النظام ومكانته الدولية وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من براثن الفساد والعنف، واستعادة بعض الثقة بالقائمين على العملية السياسية.
ليفانت - أمل الخزعلي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!