الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
الربيع الثاني.. سقوط دولة الآيديولوجيا
كمال اللبواني

في عام 1972 اختلف د. جمال الأتاسي مع حليفه في الجبهة الوطنية التقدمية اللواء حافظ الأسد على نص المادة الثامنة في الدستور الذي فرضه حافظ ( حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع ، ويقود جبهة وطنية تقدمية )، حيث أراد حافظ أن يحصل حزب البعث على تفويض مطلق كحزب قائد بذريعة أيديولوجية ( هي بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ، تحت شعار التحرير والوحدة والاشتراكية) وهنا من الضروري أن نفهم شعار الحرية المطروح يومها كتحرر من الأجنبي وليس حرية داخلية للشعب. وهكذا خرج جمال الأتاسي ومعه رياض الترك من جبهة الأسد، وسحب ممثليه في مجلس الشعب نهاية عام 1973 وتحول لمعارض لسلطة البعث المطلقة، وليس معارضاً للنظام الوطني التقدمي الذي كان جزءاً منه، وأسس جمال يومها التجمع الوطني الديموقراطي، للتعبير عن تعارضه مع الجبهة الوطنية التقدمية (التي ضمت ذات الأحزاب بنسخ منشقة )، طارحاً شعار الديموقراطية في مواجهة تفرد ذلك الحزب، وليس الديموقراطية كتعبير عن فلسفة الحرية والليبرالية، لأن هذا التجمع مكوّن أساساً من أحزاب شمولية في أيديولوجيتها وإقطاعية فاشية في بنيتها وتكوينها أقصد < الاتحاد الاشتراكي العربي ( جمال الأتاسي )، الحزب الشيوعي (جناح المكتب السياسي بقيادة رياض الترك)، بعث 23 شباط ( يوسف سلمان )، حزب العمال الثوري السوري ( ياسين الحافظ )>. فهي أحزاب لا تختلف عن حزب البعث الحاكم بنيوياً بل بالحجم فقط (زعيم قائد دائم يقود كما يشاء هذا الحزب، ثم يورث أولاده، حافظ ورّث بشار ، وجمال ورّث سهير، وخالد بكداش ورّث زوجته ثم صهره قدري جميل، وعبد الغني قنوت ابنته مها).


 

حتى ما بعد سقوط النظام السوفييتي نهاية الثمانينات لم تتخل هذه الأحزاب الشمولية اليسارية والقومانية عن آيديولوجياتها، ولم تعتمد النظام الديموقراطي في حياتها الداخلية، ولم تؤمن بالليبرالية كفلسفة للحرية، ومنهجاً للدولة الديموقراطية، فاستمرت الأيديولوجيات الشمولية مهيمنة على الحياة السياسية والثقافة من دون منازع حتى انطلاق ربيع دمشق عام 2000 – 2001، حيث لأول مرة طرحت أفكار ليبرالية ومدنية وحقوقية عن الدولة في إطار ضيّق جداً وعدد قليل من الأشخاص، مخالفة للمناخ الشمولي السائد حينها، لأن معظم ناشطي ذلك الربيع (بحدود 1000 شخص) كانوا من بقايا أحزاب يسارية وقومية، وأغلبهم لم يجر مراجعات حقيقية لما يحمله من أفكار، هذا الربيع سرعان ما وئد في ظلام القمع خريف 2001، باعتقال رموزه الليبراليين القلائل المحاطين ببحر من الشموليين، الذين فرغت لهم الساحة، ليحاول هذا الربيع النهوض مجدداً عبر إعلان دمشق عام 2005، الذي هيمن عليه فيما بعد رياض الترك حليف الأتاسي سابقاً، أيضاً بعد اعتقال رموز الإعلان الليبراليين الذين فازوا في قيادة أول جسد له عام 2007، وحوله رياض لبديل عن حزبه الذي تفكك عملياً، بينما استمر حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع تحت أمرة زعيم فرد جعل من ذلك الحزب مطية لاستبداده وفساده، حكم هو وابنه قرابة 50 عام بقانون الطوارئ والقمع والتشبيح المبرر دستورياً بمهمة قومية كبيرة تتطلب التضحية حتى بأساسيات قيام الدولة الوطنية وحقوق المواطن فيها، لتنتهي سلطته إلى التحالف مع إيران وروسيا على استباحة سوريا ضمن مشروع طائفي مافيوي ديماغوجي يفتقر للهوية السياسية. ويعاكس تماماً شعاراتها الثلاثة.




لم تكن الثقافة الديموقراطية الليبرالية (كعلاج فعّال للفساد والاقطاع والشمولية) شائعة في أوساط المعارضة ، ولم تنشأ أحزاب ليبرالية ديموقرطية فيها ( فقد اختفى الفكر الليبرالي مبكراً مع تقويض الطبقة الرأسمالية في البلد بحجة أنها استغلالية)، ولم تتسلح ثورة الشعب على نظام البعث عام 2011 بالوعي الديموقراطي الليبرالي والمؤسساتي الذي يرى الدولة غاية بحد ذاتها، وليست مزرعة لشخص أو سيلة لتحقيق أيديولوجيا معينة تستخدم كشعار لهذه الدولة، ويرى الدولة كدولة مواطنة هدفها حماية المواطن وتمكينه من حقوقه وتنظيم حياته العامة بما يخدم مصالحه، المواطن فيها هو القيمة الأساسية التي تقوم الدولة من أجلها، أي أن هذا المواطن ليس مجرد وسيلة لآيديولوجيا معينة، وجندي في خدمتها (إن كانت أيديولوجيا مقاومة أو اسلامية أو قومية أو أممية).


 

انقسمت المعارضة السورية الفقيرة بالثقافة الليبرالية بعد الثورة لجناحين :

1- جناح هيئة التنسيق بزعامة خليفة الأتاسي (حسن عبد العظيم)، والمكونة أساساً من الاتحاد الإشراكي العربي، ورابطة العمل الشيوعي (فاتح جاموس، فايز سارة)، والشيوعيين العرب القوميين (هيثم مناع، ميشيل كيلو، برهان غليون)، وأحزاب شيوعية كردية من المجلس الوطني الكردي وال PYD (صالح مسلم)، وهذا التيار لم يجر قطيعة مع النظام، ولم يتبن خيار اسقاطه بل تغيير سلوكه بالحوار والتفاوض سلمياً، لذلك بقي بعيداً جداً عن حراك الشارع الذي تعرض لهمجية غير مسبوقة اضطرته لحمل السلاح.




2- جناح رياض الترك الذي احتكر إعلان دمشق وشطب نهائياً رموزه الليبراليين، والمتحالف سابقاً مع الإخوان المسلمين، وهم ( أي رياض الترك والإخوان) من شكل المجلس الوطني ثم الائتلاف، تبنى هذا الجناح شعار اسقاط النظام ليقترب من الشعب الذي سبقه للشوارع، ولكنه اضطر للاعتماد على المجموعات السلفية التي دخلت على الخط الثوري بزخم جماهيري ودعم مالي خليجي قوي، وأثبتت قدرتها على تنظيم نفسها عسكرياً وصارت هي الحامل العسكري لهذا الحلف.


 

لم يتمكن هذان التياران من التحالف قبل تخلي الائتلاف عن خيار اسقاط النظام واعتماد خيار التفاوض معه بعد توسعة الائتلاف، هذه الوحدة بين الائتلاف وهيئة التنسيق ولّدت هيئة التفاوض العليا (التي اسقطت شعار اسقاط النظام) لتصبح الجسد التمثيلي الشرعي الذي يمثل المعارضة، وتبتعد كثيراً عن الحراك الشعبي وتتحول تدريجياً لتصبح في صف خونة الثورة. بينما انفصل الجناح السلفي عنها وسار بتوجيه من الإخوان الذين خسروا الهيمنة على هيئة التفاوض في اتجاه تفاوضي آخر هو مسار الأستانة برعاية تركية، والذي تم عن طريقه تسليم معظم المناطق المحررة. ليعود هذا التياران للاتحاد من جديد في المسار الدستوري الذي يفترض به تكريس النصر العسكري للنظام بحل سياسي، وليتجه الإخوان لمحاولة فرض نوع من الشراكة على النظام عبر الحلف التركي الإيراني الروسي، فالسلطة طاحون، وأي طريق يوصل إليها مشروع.




كل من ذكرت من قيادات المعارضة هم ذوو بنية وعقلية شمولية، رغم محاولتهم التلوّن باللون الديموقراطي، فالثورة السورية تجاوزت مبكراً شعار الحرية والديموقراطية لشعارات إسلامية، بل اعتبرت الشعارات المدنية شعارات علمانية وملحدة، وحولت هدف إسقاط النظام من أجل بناء دولة الحق والقانون، لبناء دولة الله في الأرض (الخلافة والإمارة)، وهكذا استخدمت من جديد الشعارات الآيديولوجية الديماغوجية لخدمة نزعة التسلط والاستيلاء على الثروة واستعباد البشر، فالتضحية بالمواطن وحتى بالدولة تصبح واردة ومبررة عندما يكون الهدف هو الممانعة كما عند النظام وحلفاءه الذين شنوا حروب القتل والتهجير والتدمير على شعوبهم، أو عندما تكون الشهادة في سبيل الله هي الغاية كما عند الأحزاب الدينية كداعش والنصرة والتحرير والإخوان (شعار الإخوان : القرآن دستورنا، والرسول قدوتنا، والجهاد وسيلتنا، والشهادة غايتنا) أما الدولة والوطن والمواطن فلا ذكر لهم في أدبيات الأحزاب السياسية في مجملها وبكافة تلاوينها التي تحمل أيديولوجيا أكبر بكثير وأهم من الدولة، طبعاً سكت رياض الترك عن ذلك طويلاً رغم أنه قائداً لحزب الشعب، ومحتكراً لإعلان دمشق للتغيير الديموقراطي، منتظراً أن ينجز الإخوان والسلفيون مهمة إسقاط النظام عسكرياً وينتقل معهم للسلطة كشريك، لكنهم لم يفلحوا، واتجهوا لمشاركة النظام من دونه، ومن دون هيئة التنسيق أيضاً.




بسبب فقر ثورة الشعب عام 2011 بالثقافة السياسية الديموقراطية، ركبها مجموعة من منتمي الأحزاب الأيديولوجية القومجية واليسارية وتحالفوا بشكل خاص مع الأيديولوجيا الدينية التي استفاقت متأخرة على صوت الجماهير في الشارع، والتي تستخدم الدين كآيديولوجيا وتقيم الدولة لخدمته كما تدعي، وهكذا تشكل المجلس الوطني على هذا التحالف بين الآيديولوجيين الذي يرون الدولة مجرد مزرعة، مطعّماً بعدد من الانتهازيين بحجة تمثيل المكونات الوطنية رغم عدم مشاركتها بالثورة، ثم الائتلاف من بعده على الحلف بين اليساريين القومجيين وبين الإسلاميين، ومطعّماً بعدد كبير من الانتهازيين المستعدين لبيع أصواتهم لهذا وذاك ممن أدخلهم بحجة تمثيل الثورة ومنظماتها الوهمية: المجالس المحلية، المجالس العسكرية، الحراك الثوري، الهيئة العامة للثورة، لجان التنسيق المحلية، حزب معاً وحزب وطن وقمح ومنبر وأمناء وأحزاب كردية وتركمانية وآشورية.... إلخ، (وكلها لا وجود لها في الواقع) والتي استخدمها الإخوان ليسيطروا على الأغلبية التصويتية في تلك المجالس من دون الظهور كحزب قائد وحيد فيها، وطغت تلك التركيبة على كل الهيئات اللاحقة بعد ضم هيئة التنسيق، وبعدها منصات موسكو والقاهرة وأستانة، وكانت النتيجة بسيطة جداً هي الخروج عن أهداف الثورة وتحويلها لمزارع، واسقاطها بالمفرق ثم بالجملة.




الدولة الدينية أو الشيوعية كما الدولة القومانية سرعان ما تعود لقاعدتها الأساسية وهي الاستبداد والتشبيح ودولة المزرعة المملوكة لشخص، لأن كل دولة مؤدلجة هي دولة سلطانية ذات قشور تجميلية تغلفها ولا تغيّر جوهرها، وهو حكم القوة واستخدام تلك القوة للسيطرة على الثروة واستعباد البشر لصالح الحاكم وأزلامه المجرمين والفاسدين ، وهكذا فشل الربيع الأول لأنه استغرق في الفكر الشمولي الاستبدادي الذي يعتمد الدولة المؤدلجة، ولم يسترشد بالفكر الليبرالي الديموقراطي ومفهومه عن دولة المواطنة.




مرت عشرة أعوام مريرة على شعوب الربيع العربي حتى أثبتت لها التجربة المؤلمة عقم الدولة الأيديولوجية، وتتفتحت من جديد الأفكار الليبرالية مع اندلاع ثورات لبنان والعراق وإيران والداخل السوري، والتي تبشر بالسقوط النهائي للدولة الآيديولوجية في المنطقة (دولة المقاومة، دولة الإسلام، دولة المذهب، دولة المحاصصة، دولة الحزب القائد، دولة العنصرية القومية العروبية والكردية والفارسية والتركمانية). 




ومع اقتراب عام 2020 تظهر هذه الشعوب في ربيعها الثاني رافضة لكل أنواع الدولة الآيديولوجية، الموظفة لخدمة أي غرض أو شعار غير حقوق ومصالح المواطن، فكل تجارب الدولة الأيديولوجية بكل ألوان ايديولوجياتها قد انتهت بالتجربة العملية لمكان واحد هو مستنقع الاستبداد والفساد والاستعباد والحروب العبثية وضرب الشعوب والمكونات ببعضها، كلها ومعاً قد فشلت في الشرق الأوسط، بعد أن سبق وفشلت في أوروبا الشرقية قبل 30 عاماً، حيث أسقط ربيعها الليبرالي النظم الشيوعية التي كانت تدعي أنها تريد إلغاء الدولة (الدولة كأداة قهر واستغلال طبقة لطبقة أخرى وفقاً لتعريف الشيوعية لها)، وإقامة المشاعة في مجتمع لا طبقي تزول فيه الملكية الخاصة والاستغلال وفق تصور فوضوي طوباوي ساد الفكر الاشتراكي ... لكنها فعلياً أقامت الدولة الشمولية الصارمة، دولة العصابة والمافيا التي اسمها الحزب القائد، التي تجردت أخيراً من قشورها لتظهر عارية على حقيقتها المافيوية، كما في النظام الروسي والصيني الراهن، تلك الأنظمة التي لابد أن يمتد إليها الربيع الليبرالي، وتعاني يوماً من أزمات سياسية داخلية تطيح باستقرارها وتفضح زيف تقدمها الذي يقوم على استغلال شعوبها وقهرهم، فما يحدث في إيران يمكن اعتباره مقدمة لما سيحدث في الدول الأيديولوجية الداعمة لها،

الفارق بين الشرق والغرب ليس المستوى الاقتصادي وحجم الدخل والمدخرات ومعدلات وأرقام النمو، ولا حتى القوة العسكرية، الفارق ليس كمّيا، بل هو فارق نوعي يتعلق ببنية المجتمع ووظيفة الدولة أساسا. حيث في الغرب يتحول الحكام لمجرد موظفين يخدمون نظاماً يمثل الشعب (ويتحقق حكم الشعب بهيئته العامة لنفسه بنفسه). تلك هي قاعدة الاستقرار والتقدم الثابتة الراسخة التي تجعل من الغرب سيداً للحضارة، لايمكن تقويض سيادته لها من دون تقليده وتبني الأسس الفلسفية لحضارته.




بفعل ثورات الربيع المتلاحقة يتغير الشرق الأوسط بسرعة نحو الفلسفة الليبرالية، لكنه يعبر إليها عبر طريق الفوضى والصراعات العنيفة وفشل الدول، بعكس التحول السلمي الذي حدث في دول أوروبا الشرقية ... وحدها الملكيات الدستورية قد تستطيع تجاوز مرحلة الفوضى، في حال مارست سياسات إصلاحية فعّالة لمحاربة الفساد والتخلف الاقتصادي وعززت ممارستها الديموقراطية وأقامت دولة المواطن، لأن أحزابا آيديولوجية كثيرة دينية وقومية ويسارية تتربص بها وتريد استغلال أي أزمة اقتصادية فيها لركوب انتفاضة شعبية ضد نظمها والتسبب بدخولها مرحلة الفوضى والفشل أيضاً، وهذا ينطبق على الأردن والمغرب، ونسبياً على الكويت والإمارات وقطر.




لقد سبقت شعوب العراق ولبنان ونوعاً ما السودان والجزائر بقية الشعوب بسلوكها طريقاً مستقيماً نحو الدولة المدنية الديموقراطية الليبرالية، متجنبة الوقوع تحت قيادة الأحزاب الأيديولوجية، بينما تعرّج كثيراً طريق الثورة السورية واليمنية والمصرية والليبية بسبب سقوطها فريسة ولع تلك الشعوب بالأيديولوجيات الراديكالية وبشكل خاص الدينية والقومية والماركسية، والتي حوّلت الربيع العربي لشتاء متجمد بسبب تجمد آيديولوجيتها وعقلها عند مرحلة ما قبل الحداثة، وتجاهل مسألة الدولة المدنية كحاجة وغاية بحد ذاتها، ولعدم قدرتها على تبني منطق ومفاهيم العصر والحضارة التي تقوم على فلسفة الحرية (الليبرالية) والنظم السياسية الديموقراطية التي تكرّس الفرد سيداً حراً ، ومواطناً ذا حقوق طبيعية مقدسة لا يجب أن تمس، وترى الدولة كعقد اجتماعي بين مواطنين أسياد أحرار، لا يشترط فيهم التشابه ولا الطاعة لزعيم أو وصي  ولا الإيمان برمز واحد. وترى الوطن كجامعة لمواطنين أحراراً ومختلفين، لكنهم متفقون على نظام حقوقي سياسي للعيش المشترك.




كاتب وسياسي سوري


الربيع الثاني.. سقوط دولة الآيديولوجيا الربيع الثاني.. سقوط دولة الآيديولوجيا الربيع الثاني.. سقوط دولة الآيديولوجيا الربيع الثاني.. سقوط دولة الآيديولوجيا الربيع الثاني.. سقوط دولة الآيديولوجيا

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!