الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
الشرعيّة الثوريّة وسؤال السياسة والسلطة
جمال الشوفي

بين العنف وشرعية الاستحواذ المنفرد على السلطة جوهر مشترك، هو مقولة الغاية والوسيلة لميكافلي، فكل غاية تبرّر وسيلة استخدامها غير المشروعة تنفي شروط تكونها من حيث كونها غاية إنسانيّة، بقدر ما هي غاية تملكيّة تفترض الشرعيّة والشمول والإطلاق، وليس فقط، بل نفي الآخر كلية، لغة، ومن ثم فعلياً، وفرض وسائلها عليه تبريراً لغايتها، وهذا منزلق خطر نفسياً وسلوكياً وسياسياً يقوّض أساس الشرعية العامة للاختلاف وآلية التعاقد حوله من جهة، ويؤسس للانتفاع الشخصي والمنفرد على حساب مصلحة المجموع من جهة أخرى، وفوق هذا كلّه يجعل الوسائل مبررة كغايات تغلّفها الأيديولوجية المزينة لها كآلية عمل قسرية. السياسة والسلطة


فالغاية المحاطة بخطر أن تتجاوزها الوسيلة أدواتياً، وتتحوّل معها الوسيلة لغاية بحدّ ذاتها، تولّد العنف الذي يحمل عنصراً تعسفياً نفسياً وسلوكياً، وذلك عند غياب الغاية الإنسانيّة أولاً، فممارسة السلطة كغاية لأيّ عمل سياسي هو منتج سياسي يستلزم شرعية وجوده في حيّز عام يفترض إرادة المشاركة الجماعية على الفعل المتناسق والأدوار الممكنة الإدارية، وهذا خلاف عن شرعية مفردة تفرض إرادتها على الآخرين بفعل القوة وشرعية الأحقية والأهلية، وتبرّر وسائلها وتزينها بإقامة نظام بديل، كما زينته الشيوعية ذات يوم، فأقامت سلطة شمولية مهيمنة بغاية العدالة الاجتماعية التي نفتها جذرياً حين نفت واعتقلت مخالفيها، أو ما مارسته شرعيات نظم العسكر في حواضن الشرق الذي نعيش، قوموية كانت أو اسلاموية أو تنوس بين هذا المثلث بعامة، فحوّلت البلاد والعباد لخراب.


تستطيع علوم النفس تبرير العنف كردة فعل، لكنها لا يمكنها أن تضع له الأسس المنهجية والمعرفية لشرعنته كممارسة مستدامة، وأيضاً تقوم على ترويض حامليه بأدوات شخصية مفردة من خلال علاجات نفسية وسلوكية شخصية بذاتها، لكن في موضوعات السياسة وحكم البشر والمجتمعات يحيل السؤال إلى البنية العامة وشروط علاجها العام لا الشخصي والمفرد، وهذا فرق واحد، فبقدر ما تكون القدرة خاصة فردية، والقوة المستخدمة كمرادف للعنف، هي كلمة مرادفة لقوى الطبيعة التي يسعى العقل البشري لكشف العماء عنها وتسخيرها لمصلحته، تكون السلطة ليست قدرة البشر على أن يعملوا معاً وحسب، ولكن أن يعملوا بطريقة متناسقة، ومتبادلة الأدوار تفترض شرعية الجميع بشكل متساوٍ، حقوقياً، ومختلف، إمكانية وأدواتاً.


فقوة الحكم والسلطة في معناها ومضمونها هي تصوّر رضائي أو طوعي، تعتمد على اتفاق جماعة من الفاعلين الاجتماعيين على كيفية تنظيم ممارساتهم الحياتية المتعددة، وتحديد وتنظيم دور الأفراد لأداء هدف عام متفق عليه، فهي ضرورية لأي هيكل تنظيمي اجتماعي كسلطة أو إدارة عمل ما، ولابد أن تكون قوته في الاقتناع الحر على شكل تداوله، وهذا خلاف عن ممارسة سلطة القوة وشرعيتها الثورية. ومن ثم تكون القوة هنا قوة اجتماعية إيجابية، وإلا يصبح الكيان السياسي القائم هو اغتصاب وتعسف.


السلطة، وخلافاً للشرعيّة الثورية المحملة على النزعة النفسية والثأرية هي فعل بشري يذهب باتجاه عدم نكران دور السلطة كفعل بشري مقوّمه الأساس العقد الاجتماعي الذي أسسته ثقافة عصر الأنوار، هي شرعية الفعل السياسي والعمل الحكومي الذي يقوم على نفي موضوعة العنف المرتبطة بأفكار الطاعة والإرادة والهيمنة وحكم الإنسان للإنسان، وتقتضي بالضرورة العمل السياسي الشرعي ضمن المجتمع لتصل بالضرورة لحكم البشر للبشر بعيداً عن الإكراه والتعسّف والتسلّط وبالضرورة العنف.


في سياق المسألة السورية، تمّت ممارسة الشرعيّة الثوريّة تلك من قبل غالبية الصنوف، سلطوية كانت أو معارضة، وما ينوس بينهما. فبرزت مقولة ماوتسي تونغ "السلطة تنبع من فوهة بندقية"، والتي أوجدت أكثر أشكال الطاعة، أكثر القيادات فاعلية، ولكنها أبداً لم تنتج السلطة بمفهومها السياسي وأقلّه الإداري في التعامل في شؤون البشر، فمن فوهة البندقية يمكن أن تحصل على شرعية مؤقتة للسلطة، لكن تنفي جذور السلطة كعمل سياسي من حيث المبدأ، وهذا هو حديث السوريين لليوم وسؤالهم: من يمتلك سلطة سياسية في سوريا؟


ممارسة الشرعية الثورية والعنف والدخول في صراعه الدامي، قاد السوريون من أصحاب الشرعيات الثورية أو السلطوية القائمة على حدّ سواء، للوقوع فعلياً في شباك التعقيد العالمي الروسي والأمريكي، وما دونه الإيراني والتركي وغيره، وتنازعهم السياسي والدولي باستثمار كريه لموضوعة الثورة السورية وشرعية مطالبها السياسية في التغيّر السياسي، والانتقال لموضوعة فرض الشرعية والحصول على سلطة بديلة، ليشارك السلطة القائمة مفاعيلها العنفية ذاتها بالجوهر والممارسة. وهذا سرّ استعصاء المسألة السورية لليوم، حيث يقع السوريون بين فكي كماشة متعددة الشرعيات:


ثمة من شارك سياسياً ولفظياً جبهة النصرة، المتطرّفة دينياً، وتأييد أية بندقية لإسقاط النظام في مقابل استقدام كل ميليشيات القتل العنفية المطالبة برأس الحسين قبل 1400 عام مضت. ومنها من أيّد اجتثاث العلويين والأقليات جميعاً على أساس أنّها شرعية ثورة السنة في إصباغ الشارع الإسلامي السني لشارع يكتنفه الإرهاب ومولد وحاضن له.


ومنها من عمل وفق مشروعية سيطرته العسكرية، سلطة ومعارضة، حتى لو فني الآخر كلية، مشرّعاً كل أشكال الخطف والتعسف والقتل والسحل في مناطق سيطرته العسكرية ضد قوى المجتمع المدني والأهلي، مصدر الحكم والتشريع، والذي كانت لأجله وجود السلطة القائمة بالأساس أو المولدة للثورة ضدها، وليس فقط، بل مصدر كل سلطة.


ومنها من مارس شرعيته الثورية النفسية رافضاً التشاركيّة والعقلانية كضرورتين لازمتين لتقويم اعوجاج كل ما سبق وتصويب بوصلته، ما أخر ويؤخر أي جهد ثوري أو سياسي للوصول لمفاعيل التغيير السياسي اجتماعياً ومحلياً، وما يمكن أن يُبنى عليه دولياً في ذات السياق، حيث إنّ الحوامل المجتمعية والتناقضات الحادة فيه هي التي تقود لتغيره، وهذا مختلف كلية عن فرض الشرعية على مسار التناقضات والحوامل هذه تحت عنوان التغيير القسري والشرعية الثورية، فالسلطة والعنف في تناقض دائم، والعنف هو ليس مقوّضاً للسلطة وفقط بل طارد لكل عمل سياسي أو مدني.


ثمة اليوم حوار شاق يخوضه السوريون: من يمثلني؟ سؤال يحمل في طياته العودة لحكم الشرعية حزباً أو قوة عسكرية أو إرادة فردية، لتجد في كواليس المعارضة السورية هذا التباين الحاد بين مقومات الكتل السياسية المتنافسة على شرعية تمثيل السوريين ومطالبهم، وحدة التنافس الشرعوية هذه تكتنفها أحلام القيادة المفردة ونزعة رفض الآخر الكلية من باقي الأطياف إلا ذاته، وهذه لا تختلف أبداً عن سؤال السلطة القائمة ذاتها التي تمارس شرعيتها العنفية بعدم الاعتراف بالمختلفين عنها سياسياً وفكرياً، وتصرّ بصلف على الاستفراد بحكم سوريا حتى لو باتت خراباً.


فهل يمكن اليوم أن يجد السوريون سؤالاً مختلفاً لهم: من يشاركني؟ من يمدّ يده لحمل تركة السوريين الثقيلة بعد 10 سنوات من ممارسة كل صنوف الشرعيات؟ من يتحمل المسؤولية معي ويشكل رافعة للتشارك في وحدة المصير والهوية، بعد سنوات من تذررها وتشتتها بين ألف مصير ومصير دونه؟ من يدخل بوابة السياسة معي بعد أن حولتنا الأيديولوجيات لقبائل سياسية متناحرة تغزو بعضها البعض، وتسبي أفكار بعضها البعض، وتمارس كل عفن التاريخ القابع فينا، لكن بصورة منمقة "تغثي" على النفس؟ من يمكن أن يكون سورياً في زمن باتت كلمة السوري عبئاً على كل مسامع الدول، وباتت المشاريع ما دونها قيد التداول والتنفيذ؟


فهل سيبقى سؤال من يمثلنا ذا شرعية ثورية جزافية، أم لابد من فتح بوابات الأسئلة الأخرى؟ السياسة والسلطة


جمال الشوفي


ليفانت - جمال الشوفي  ليفانت 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!