الوضع المظلم
الثلاثاء ٢٤ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
العالم يأكل الحصرم والسوريون يضرسون
عبير نصر

إشكالية الهوية والانتماء. الاحتلال والتغيير الديموغرافي. التجويع والتهجير والإرهاب الجسدي والفكري والنفسي، ليست أبرز مآسي السوريين بالتأكيد. هم الذين يشعرون بأنهم محاصرون في صراعٍ عالمي لا نهاية له، لتصبح المأساة السورية واحدة من أحلك فصول التاريخ الحديث وأكثرها دموية، ويغدو الشعب السوري من بين أكبر ضحايا هذا القرن.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فكلّ مصيبة تحصل في العالم، وعند كلّ حرب تُضرم، لا غرابة أن يُلام السوريون عليها. ولعلّ الخطاب العنصري الأكثر استفزازاً مؤخراً أدلّ مثال على ذلك، والذي جاء في صحيفة تابعة لإحدى الأحزاب المعارِضة والمناهضة للاجئين السوريين في تركيا، حيث شاركت صورة لسيدة بولندية قُتلت وهي تتصدى للغزو الروسي، وتكتب تعليقاً تقول فيه: "بينما كان الرجال السوريون يدخنون الشيشة على شواطئنا، وهربوا من الحرب، ماتت المجندة الأوكرانية إيرينا تسفيلا وهي تقاتل من أجل وطنها". زاد الطين بلّة أنّ السوريين الذي سلّموا أخيراً بأن المجتمع الدولي منقسمٌ ومحاصر في حروب جيوسياسية، وعالقٌ في رواياته التنافسية، لم ينجح في مساعدتهم على التخلص من كابوسهم الحيّ، بل زاد من توريطهم في صراعاتٍ خارجية لا تعنيهم، وحروبٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل. إذ توجّه آلاف السوريين خلال السنوات الماضية للقتال في ليبيا وأذربيجان إلى جانب القوات المدعومة من روسيا أو تركيا.

واليوم يؤكد تقريرٌ لمنظمة "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة"، المختصة بمراقبة حقوق الإنسان، أنّ ضباطاً روسيين طلبوا من أجهزة الأمن التابعة للنظام السوري تسجيل أسماء المقاتلين المتمرسين بحرب المدن، فيما يبدو أنه تحضير لنقلهم للقتال في أوكرانيا. بينما شبّه الباحث في معهد "الشرق الأوسط"، تشارلز ليستر، عبر تويتر، جلب سوريين إلى أوكرانيا "بإحضار سكان المريخ للقتال على القمر، فهم لا يتحدثون اللغة، والبيئة مختلفة تماماً"، حسب تعبيره.

وفي التفاصيل، أعدت روسيا قوائم بأكثر من أربعين ألف مقاتل ينضوون ضمن قوات النظام السوري ليكونوا على أهبة الاستعداد للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، عبر مكاتب تابعة لحزب البعث الحاكم بالتعاون مع شركة فاغنر شبه العسكرية، وهي مجموعة من المرتزقة المعروفة بعلاقتها الوطيدة بالكرملين والناشطة في سوريا منذ سنوات. كذلك، نشط "أمراء الحرب" في توزيع مسودات عقود على شبابٍ سوريين، ويتضمن العقد سبعة آلاف دولار لكلّ مقاتل مقابل سبعة أشهر للعمل في حماية المنشآت بأوكرانيا، ويعتبر هذا الرقم كبيراً بحسب مراقبين، خصوصاً في ظلّ الأوضاع الاقتصادية التي تشهدها البلاد وانخفاض قيمة الليرة مقابل الدولار، ما قد يشكل إغراء للشباب للذهاب والقتال هناك. وفرض العقد شروطاً، من بينها عدم الرجوع إلى سوريا حتّى انقضاء المدة. كذلك، في حال مقتل المحارب لن يتم التعامل معه من قبل "صندوق الشهداء" في سوريا، بل هو مجرد قتيل لا يحظى بـ "أيّ امتيازات". في المقابل قد يحصل المتطوعون على أسباب للتأجيل لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، التي كانت أحد أسباب هجرة كثير من الشباب السوريين.

بطبيعة الحال، قبل بدء الحرب الأوكرانية، أرسلت روسيا، التي ما يزال بإمكانها التباهي بأكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم، والتي تستحوذ على كثيرٍ من المرافق الاقتصادية الحيوية في سوريا كالموانئ والمطارات وحقول النفط والفوسفات، أرسلت أعداداً ضخمة من أسطولها الحربي إلى الشواطئ السورية تحسباً لأيّ إغلاق لمضيقي البوسفور والدردنيل من قبل تركيا، ووضعت ميناء اللاذقية وشواطئ سوريّة كقواعد خلفية عُهِدت إليها تنفيذ مهام عسكرية فيما لو احتاجت الوحداتُ الروسية دعماً نارياً وصاروخياً بعيد المدى.

على المقلب الآخر وفي سياقِ الأمن الغذائي، يبدو أنّ الوضع الاقتصادي في سوريا مرتبط بشكل كبير مع الحرب الروسية الأوكرانية، بما يتعلق بتوريدات المواد الغذائية خاصة القمح، والمشتقات النفطية والمواد الأساسية المتعلقة بإعادة الإعمار، فالمواد المستوردة لا تأتي فقط من روسيا وإنما من أوكرانيا أيضاً، بينما الاحتياطات من النفط والمواد الغذائية لا تكفي سوى لعدة أشهرٍ مقبلة رغم إنكار الحكومة السورية ذلك. وعليه أي خسائر ضخمة لروسيا في معارك أوكرانيا، أو خفض سقف الشروط التي وضعها بوتين لإنهاء حربه، سيعني دفع أثمان سياسية واقتصادية في الملف السوري، لأن موسكو حتماً ستكون أولويتها الحفاظ على وضعها الاقتصادي في الداخل، والتصدي للعقوبات الغربية، وتأمين الأمن الغذائي للشعب الروسي أولاً، والجاليات الروسية في أوكرانيا ثانياً، خاصة أنه لا يمكنها أن تدخل في أتون حرب طويلة الأمد في أوكرانيا تستنزفها لعشرات السنين وتعيدها إلى حقبة التسعينات، حيث حدث الانسحاب من أفغانستان والذي تلاه تفكك الاتحاد السوفياتي.

على صعيد متصل، قالت جويس مسويا، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن الدولي: "إن تقييم الاحتياجات الإنسانية خلصَ إلى أن 14.6 مليون سوري من المتوقع أن يعتمدوا على المساعدات هذا العام، بزيادة قدرها 9% مقارنة مع عام 2021، وبنسبة 32% مقارنة مع عام 2020"، مشددةً على أن سوريا باتت تصنف الآن من بين أكثر عشر دول تواجه انعداماً في الأمن الغذائي على مستوى العالم. بينما أكدت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية أنّ روسيا أصبحت أكثر الدول معاقبة في العالم، متجاوزة كلاً من إيران وسوريا، وذلك جراء حزمات العقوبات المتتالية التي فرضتها القوى الغربية الكبرى عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية يوم 24 فبراير/ شباط الماضي.

وأوضحت الوكالة الأميركية استناداً إلى إحصائيات موقع عالمي متخصص في تتبع العقوبات، أنّ واشنطن وحلفاءها فرضوا (2778) عقوبة جديدة على روسيا، ليرتفع عدد العقوبات عليها إلى أكثر من (5553)، وبهذه العقوبات تجاوزت روسيا، وهي أكبر دول العالم مساحة وثاني أكبر قوة عسكرية، كلاًّ من إيران (3616 عقوبة) وسوريا (2608) وكوريا الشمالية (2077). وأدت حزمة العقوبات المتتالية وغير المسبوقة على موسكو إلى إعلان كبريات الشركات الغربية، وفي مختلف القطاعات، سحب أو تعليق استثماراتها أو خدماتها في روسيا، وذلك خوفاً من تعرّض أنشطتها للعقوبات الغربية، أو بناء على قرار من تلك الشركات لزيادة الضغط على القيصر الروسي.

نافل القول.. من المؤكد أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تنذر بتداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية عديدة على الأزمة السورية، بحكم أنّ سوريا جزءٌ أساسي من الحروب المتعددة والمتنقلة التي اجتاحت العالم، وإن اختلفت الأولويات والأهمية والأهداف البعيدة والقصيرة المدى. ولا شك رغبة موسكو في استقدام سوريين للقتال إلى جانب الجيش الروسي في أوكرانيا، يعني بشكل غير مباشر أنّ ملف البلدين باتا في درج واحد يمتلك بوتين مفتاحه. وهذا له دلالات سياسية جمّة، على رأسها تكريس الشمولية السياسية التي يعتمدها الرئيس الروسي في الدبلوماسية الخارجية، في وقتٍ تتفق فيه وجهات النظر على أنّ موسكو أخطأت التقدير في لجوئها إلى الربط الفجّ بين الجبهتين السورية والأوكرانية، بينما الضغط على روسيا في الملف السوري يمكن أن يكون في ميادين أخرى غير عسكرية، مثل تشديد العقوبات على النظام السوري، واستئناف عملية عزله، والبدء بإجراءات نقل ملف جرائمه للمحاسبة بالفعل، ما سيعني، ودون أدنى شك، خسارة روسيا لفاعلية أحد أهم أذرعها الحيوية.

ليفانت - عبير نصر

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!