الوضع المظلم
الخميس ١٩ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
بندقية الجولاني ترسم خارطة جديدة للشمال السوري (1)
أحمد رحال

‌لم تكن عملية اغتيال الناشط الإعلامي محمد أبو غنوم هي باكورة النيران الموجهة للصدر الإعلامي، فمن قبله تم اغتيال الصحفي حسين خطاب، وجرت محاولات اغتيال لمراسل تلفزيون أورينت خالد الحمصي، واعتداء على مراسل تلفزيون سوريا هاني طاطين، وقبلها محاولة اغتيال الإعلامي النشط بهاء الحمصي، وحتى بعد اعتقال خلية اغتيال أبو غنوم وأثناء عملية اقتحام مشفى الباب جرت محاولة لخطف الإعلامي بدر طالب.

كذلك الأهوال والفظائع التي تم رصدها وتكشفت من داخل سجن الزراعة الذي كان يدار من قبل فصيل الحمزات، ومشاهدة أدوات التعذيب والمنفردات تحت الأرضية، ليس سجن الزراعة هو السجن الوحيد غير الشرعي في مدينة الباب، بل هناك ما لا يقل من 11 سجناً آخر غير شرعي لبقية الفصائل التي تسيطر على مدينة الباب، وترزح تحت حكم فصائلي بعيداً عن أي سجلات رسمية، وأي رقابة قانونية، أو أي ملاحقة ومحاسبة قضائية، ولا تخضع لأي من مؤسسات ما يسمى حكومة مؤقتة أو وزارة دفاع، وعلق أحد سكان المنطقة قائلاً: إذا كان ما شاهدتموه في سجن الزراعة أرعبكم وأصابتكم الدهشة، ماذا لو رأيتم ما يحصل بسجن المغارة الذي تديره فرقة الحمزات أيضاً، وهو عبارة عن عدة مغارات تحت الأرض كانت تستخدم كسجن سابق لنظام الأسد وللدواعش، والآن به عدد كبير ممن يعتقلهم فصيل الحمزات، ولا أحد يعلم شيئاً عما يحصل بداخله، أو مصير من فيه، أو أسباب احتجازهم وظروفهم؟

وأيضاً التجاوزات والانتهاكات والجرائم التي ارتكبها فصيل الحمزات بحق المدنيين، وعمليات التغييب القسري، وما تكشف في سجونه سابقاً من وجود فتيات كرديات معتقلات وغيرها من جرائم لا تعد ولا تحصى، وكلها جرائم غير مبررة لكن لا يتفرد بها فصيل الحمزات فقط، بل معظم قادة الفصائل من أمراء الحرب يقومون بتلك الجرائم وأكثر منها في أوكارهم المسماة مقرات قيادة، وفي مناطق نفوذهم التي تحولت لكارتيلات ومزارع تقاد على طريقة "هيك بدو المعلم".

وحول تحكم فصيل الحمزات بكل مفاصل السلطة في مدينة الباب ومحيطها يقول أحد الناشطين: في بلدة قباسين (خلصنا من عائلة بيت الأسد وقعنا بعائلة الشبلي المدعومة من قائد فصيل الحمزات سيف بولاد أبو بكر)، وسبب قربها أن محمد الشبلي يقوم بمهام قائد أمنية الحمزات، ونصب شقيقه يوسف الشبلي كقائد لشرطة مدينة الباب، وأخ له ملازم أول في شرطة الباب أيضاً، ورئيس المجلس المحلي بقباسين عبد القادر الشبلي، وشقيقته مدير مدرسة في البلدة، وصهره الآمر الناهي بمديرية التربية في عفرين، وزوج أخته مدير مدرسة الأيتام.

لكن طالما أن ما تكشف عن جرائم فصيل الحمزات ليس بجديد، إذاً ما الذي فجر هذا الاقتتال؟

من يتابع حيثيات مناطق الشمال الغربي السوري ومناطق النفوذ التركي التي تديرها سلطات الأمر الواقع ممثلة بالجيش الوطني ومؤسسات ما يسمى حكومة مؤقتة، يدرك تماماً أن تلك المنطقة تعيش حالة من الصراعات الظاهرة والمخفية فيما بينها، وأن صراعات جمة دارت وتدور ليس من أجل فتح المعارك مع نظام الأسد، أو دفاعاً عن أهداف الثورة، أو لتحصيل حقوق الناس المغتصبة قسراً، بل هي صراعات حول مناطق النفوذ وصراعات معابر وحواجز، وتناحرات زعامة وسيطرة، وخلافات حول المنافع والمرابح، وأن كل ما حصل بين الفيلق الثالث الذي استلم ملف التحقيق بمقتل الناشط أبو غنوم مع فصيل الحمزات ما هو إلا تصفية حسابات قديمة، وجدت بقضية الاغتيال فرصة سانحة لفتح الدفاتر القديمة والانتقام لقضايا سابقة لم يتم الفصل فيها والانقضاض على فصيل الحمزات، تضاف تلك القضية لتناحرات سابقة ومتجذرة بين جيش الإسلام وهيئة تحرير الشام، وصراع سابق بين الجبهة الشامية وفصيل السلطان سليمان شاه، وصراع مشاريع بين مشروع الجولاني الذي يريد تعميمه على كامل مناطق الشمال السوري ومشروع ناشئ تزاحم به الجبهة الشامية، وصراعات سابقة بين الفرقة 32 التابعة لأحرار الشام وفصيل الجبهة الشامية، وانقسام أحرار الشام ما بين مناصر للجيش الوطني بقيادة ياسر الشيخ وقسم آخر مبايع للجولاني ممثلاً بحسن صوفان، وهذا التنافر وتلك الانقسامات فجرت صراعاً واقتتالاً امتد لخمسة أيام، وحصد أرواح 92 شخصاً، عدا عن الجرحى، مع احتراق بعض المخيمات نتيجة تبادل إطلاق النيران حولها ونزوح الكثير نتيجة هذا الاقتتال.

فيما سبق وبعد محاولة غزو هيئة تحرير الشام لمناطق الجيش الوطني في شهر تموز/ يوليو، علم الجولاني أن دخوله منفرداً عبر أرتاله لمناطق لا حلفاء له فيها هو أمر غاية بالصعوبة، فعاد أدراجه لتعذر تحقيق أهدافه، إضافة للضغوط التركية التي مورست عليه حينها، لكن التجربة أعطت لكوادر أبو محمد الجولاني الفرصة لإعادة رسم خطة الهجوم من جديد بعد تهيئة الظروف المناسبة، فاعتمد على شراء المواقف، وبناء التحالفات مع أكثر الفصائل انتهاكاً للحقوق، وشبه المعزولة من بقية فصائل الشمال، وهما فرقتي السلطان سليمان شاه والحمزات، رغم أن معرفات قادة تلك الفصائل لم تمحَ بعد، وفيها كيل الاتهامات للجولاني بالإرهاب والقتل وتدمير الثورة وقتل الحاضنة الشعبية، بالمقابل اعتمد الجولاني سابقاً على إجرام وانتهاكات فرقتي الحمزات والعمشات كمبرر له وذريعة للانقضاض على الشمال السوري، لكن أمام عزل فصيلي الحمزات والعمشات من قبل الفيلق الثالث، وأمام حاجة الجولاني لظهير وداعم بعملية السطو على منطقة عملية غصن الزيتون، تم تجاوز الخلافات، وعقدت الاتفاقات المستورة، مع انتظار بدء العمل عند إعلان الجولاني للساعة صفر.

في مفردات الصراع النهائي في مدينة الباب سيطرت الجبهة الشامية على مقرات فرقة الحمزات تحت ذريعة إنصاف المقتول أبو غنوم وزوجته على يد خلية اغتيالات أمنية تتبع للداعشي المعروف أبو سلطان الديري، قائد أمنية الحمزات، ثم أظهر التحقيق أن أمر القتل يطال رأس الهرم بالفصيل، وأن كثر منهم اشتركوا بجريمة الاغتيال، أو اتخاذ قرار الاغتيال، وفقاً لاعترافات المقبوض عليهم، فاستنجد سيف أبو بكر قائد الحمزات بحليفه المتأهب أبو محمد الجولاني، ولحق به الحليف الآخر محمد الجاسم (أبو عمشة) قائد سليمان شاه، لتدور معركة أعد لها الجولاني خطة محكمة، اخترق فيها الجيش الوطني وقسمه لثلاثة أقسام: الأول هو الفيلق الثالث وقسم من الفصائل ممن تحالفت معه وناصرته بقتاله ضد تنظيم الجولاني، الثاني فصائل (سليمان شاه، الحمزات، الفرقة 32 أحرار) انضمت للقتال تحت راية الجولاني، والثالث هم من وقفوا على الحياد ورفضوا قتال الجولاني والدفاع عن منطقة غصن الزيتون، مثل فيلق الشام والسلطان مراد وصقور الشام.

في تفاصيل المعركة، إن أرتال الجولاني التي انطلقت من إدلب وأرياف حلب الغربية وجدت معبر الغزاوية مفتوحاً وجاهزاً للعبور، بعد أن أخلاه فصيل فيلق الشام الموكل بحمايته، وهو المحسوب على حركة الإخوان المسلمين شبه المسيطرة على القيادة السياسية في الائتلاف الوطني، وخلو الطريق الممتد من خطوط التماس مع جبهات الجولاني حتى عفرين والموكل حمايتها لفصيل السلطان مراد بقيادة فهيم عيسى الذي آثر الحياد وترك القتال وعدم الدفاع عن عفرين، وهكذا تقدمت أرتال الجولاني دون قتال عبر عدة محاور باتجاه مدينة عفرين، لكن الفيلق الثالث فضل الانسحاب لتجنب القتال داخل المدينة والتسبب بكوارث للمدنيين كما قال قادته، وتركت المدينة للجولاني دون قتال، فدخلتها أرتال الفاتح الجولاني دون عناء، ليعيث عناصرها فساداً وتشبيحاً وسرقات وثقتها عدة فيديوهات التقطتها كاميرات مراقبة في الأماكن المسروقة بعد أن غابت تلك الكاميرات عن أعين لصوص الجولاني وإلا كانوا حطموها لطمث سرقاتهم، حتى المتحف التراثي السوري قد تمت سرقته وتعفيشه من قبل عناصر الجولاني كما قال بتسجيل مصور السيد إبراهيم الصمادي الذي يدير المتحف بجهود شخصية تطوعية، عدا عن تسبب فوضى دخول ميليشيات الجولاني لمدينة عفرين وهروب المدافعين بفرار 180 سجيناً من السجن المركزي في مدينة عفرين، تمت إعادة 60 منهم، والباقي لاذوا بالفرار لجهة مجهولة.

أرتال الجولاني التي أرادت تطوير المعركة بالسيطرة على مدينتي إعزاز والباب وحسم المنطقة تحت راية إرهاب الجولاني، توقفت أرتالها عند بلدة كفر جنة التي تحصن فيها المدافعون من الفيلق الثالث وأجزاء من الفيلق الثاني، إضافة لنشر جيش الإسلام نقاط ارتكاز ودفاع امتدت من مدينة الباب حتى قرية الغندورة وشكلت سنداً قوياً للفيلق الثالث بخطوط دفاعه المنتشرة في كفر جنة، وهجوم عصابات الجولاني الذي تكرر بحسب بعض الروايات لست مرات على كفرجنة وعبر محورين: الأول وهو الأقوى باتجاه الطريق الرئيس كفرجنة_ إعزاز، والآخر ثانوي على اتجاه شران، وكلاهما فشلا بتجاوز عقدة المدافعين، وقصف الجولاني المكثف أثناء هجومه على محور كفرجنة تسبب بإصابة نقطة عسكرية تركية تتواجد بإحدى مزارع البلدة أدت لمقتل جندي تركي وإصابة جنديين آخرين، وتكبد تنظيم هيئة تحرير الشام خلال الهجمات الفاشلة خسائر كبيرة أجبرته على الجلوس على طاولة المفاوضات مع أبو أحمد نور القائد السابق للجبهة الشامية وممثل الفيلق الثالث بالمفاوضات.

 

ليفانت - أحمد رحال

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!