الوضع المظلم
الجمعة ٢٠ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
بندقية الجولاني ترسم خارطة جديدة للشمال السوري (2)
أحمد رحال

طاولة المفاوضات التي انعقدت في معبر باب الهوى وجلس على طرفيها أبو محمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، يقابله أبو أحمد نور ممثل الفيلق الثالث برعاية ممثل عن الجانب التركي كراعٍ للمفاوضات، كانت شروطها وسقوفها جداً مرتفعة من الطرفين، وكلاهما يفاوض وينتظر ما يقوي موقفه التفاوضي عبر سماع خبر قادم من جبهات القتال التي اشتدت وتيرتها في فترة التفاوض التي استمرت لقرابة خمس ساعات.

هيئة تحرير الشام طالبت بتطبيق إدارة موحدة لكل المناطق المحررة، وإخلاء جميع المدن والبلدات والمؤسسات من الفصائل وانتقالهم للجبهات، مع إدارة موحدة لجيش الفتح في جميع المناطق، وإقامة إدارة جديدة بعد انتهاء مدة ولاية الحكومة المؤقتة، وأن يكون حكم المناطق خاضعاً لإدارة محلية تبتعد عن أي تدخل من جهات خارج الحدود، وأخيراً ترحيل فصيل جيش الإسلام إلى مناطق عملية نبع السلام في شرقي الفرات.

بالمقابل، طالب الفيلق الثالث بخروج هيئة تحرير الشام من كامل منطقة عملية غصن الزيتون، ومحاسبة قتلة الناشط محمد أبو غنوم وزوجته، وتسليم الهيئة لقادة مطلوبين من فرقتي السلطان سليمان شاه والحمزات، وترحيل قادة من أحرار الشام إلى إدلب بعد محاسبة أحرار الشام (قطاع شرقي) على نقضهم الاتفاق مع الفيلق الثالث، وتسليم مقار الحمزات في مدينة الباب للمؤسسات المدنية لإدارتها، وترحيل قادة من فرقتي سليمان شاه والحمزات إلى مناطق عملية نبع السلام في شرقي الفرات.

السقف المرتفع لكلا الطرفين عرقل الاتفاق لكن فيما بعد تم الاتفاق وأهم ما كان لافتاً هو موافقة الفيلق الثالث على شرط تسليم ملفات منطقة غصن الزيتون الأمنية والعسكرية والإدارية والاقتصادية لهيئة تحرير الشام وأدواتها في المنطقة، ووضع الجولاني شرط إذلال وافق عليه الفيلق الثالث لكن أوقفه الناشطون من أبناء مدن إعزاز وجرابلس والقرى على الطرق العامة، والشرط كان يقضي بجولة استعراض قوة لأرتال الجولاني تعبر مدينتي إعزاز وجرابلس برسالة يقول فيها قائد هيئة تحرير الشام: الجميع خضع لي، أنا الفاتح أبو محمد الجولاني.

تقول بعض المصادر الأمنية التابعة للحكومة المؤقتة في مدينة عفرين إن أرتال الجولاني التي احتلت وسيطرت على مدينة عفرين اصطحبت معها من إدلب رجال أمن وشرطة مدنية وإدارة سجون وعمال نظافة أيضاً، وإن معظم من أحضرهم الجولاني لاستلام الملف الأمني في عفرين لا يوجد فيهم سوري، فقد أحضر المهاجر الأسترالي إبراهيم بن مسعود، ويونس أبو عبد الله العراقي، وأبو علي التونسي، وأبو سعد المغربي، ولهذا الخبر مدلولات واضحة بأن هيئة تحرير الشام قادمة لتفرض أجندتها وتسيطر على منطقة غصن الزيتون، ومؤقتاً قد تقبل بشراكة عبر أذرعها الأمنية والإدارية لكن بمجرد انتهاء ولاية الحكومة المؤقتة (كما قال بشروطه التفاوضية) ستكون هناك ترتيبات أخرى قد لا يكون فيها مكان لرئيس الحكومة الحالية عبد الرحمن مصطفى ولا لكثير ممن يحملون رتبة وزير بالحكومة المؤقتة.

ما أبرز ما تمخضت عنه معارك الشمال في مدينتي الباب وعفرين؟

_ بروز انقسام حدي في مكونات الجيش الوطني ما بين مدافع، ومتحيز للقتال مع الجولاني، وما بين من آثر الحياد وامتنع عن القتال ولاذ بمقراته، مع غياب كامل لما يسمى وزارة دفاع.

_ ظهر جلياً أن عناصر تنظيم هيئة تحرير الشام هم الأكثر تماسكاً وتدريباً والتزاماً وانضباطاً وخبرة بالأعمال القتالية مع امتلاكهم لإرادة القتال، على حساب جيش وطني مهلهل، مفكك، يعيش حالة فصائلية فردية، لا يملك قيادة، نسي معظم عناصره أبجديات العلوم العسكرية، لا يملك إرادة قتال، باعتبار أن جلّ المهام الموكلة لهم من قادتهم خلال السنوات السابقة كانت تنحصر بسرقة بساتين الزيتون والرباط على المعابر والحواجز ومعاصر الزيتون، باستثناء قلة من الشرفاء لا يمكن ظلمهم ونسيان جهودهم.

_ انسحاب الجولاني الذي نقل عن بعض المصادر بعد تطبيق الاتفاق مع الفيلق الثالث هو عبارة عن مسرحية هزلية، لأن انسحاب الجولاني كان لصالح الفصائل المتحالفة معه، وإبقاء الأمن والشرطة المدنية ودوائر الخدمات تحت سيطرته ورقابته، وبالتالي هذا ليس انسحاباً بل هو تغييب نظري لرايات الجولاني المرفوضة شعبياً ودولياً، لكنها الواقع الفعلي على مفاصل إدارة عفرين التي بقيت بشكل نهائي بيد الجولاني وحلفاء الجولاني.

_ أثبتت الأحداث أن الحالة الفصائلية ما زالت المسيطرة بالشمال السوري، برغم كل التنبيهات والتحذيرات التي مورست من قبل ناشطين ووجهاء ومحللين عسكريين خلال السنوات السابقة، وأنها أٌهملت ولم يؤخذ بها، وبقي قادة الفصائل هو من يستفردون بالقرار دون أي تنسيق أو تعاون أو التزام بتعليمات أو أوامر ما يسمى وزارة دفاع.

_ ضبابية الموقف التركي، والجميع كان موقناً أن الأتراك لم يحركوا ساكناً، وكان غير معروف إن كان صمتهم ناجماً عن موافقة لما يحصل أو عجز عن التدخل، والعجز التركي منطقياً غير وارد، لأن الجميع يعلم أن تحليق طائرتي بيرقدار فوق أرتال الجولاني المتقدمة من أرياف إدلب إلى منطقة عفرين كان كافياً لوقف تقدمها، وأن قصف تلك الأرتال كانت كفيلة بوقف كل غزوة الجولاني، وإن أصر على الهجوم فطائرات بيرقدار التي أذلت الجيش الروسي في جبهات أوكرانيا لن تكون عاجزة عن تمريغ أنف الجولاني وأرتاله بالتراب.

_ برز بشكل واضح شلل مؤسسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة التي تقدم نفسها على أنها ممثلة للثورة السورية وحاضنتها الشعبية، وحتى البيان الذي أصدره الائتلاف بعد جهد جهيد لم يتجرأ على تسمية تنظيم الجولاني وتحميله المسؤولية، بل اكتفى بالحديث عن اقتتال بيني جاعلاً من إرهاب الجولاني مكوناً من مكونات الثورة، وهذا أمر طبيعي نظراً للعارفين بصراع المكونات بداخل الائتلاف وتنوع أيديولوجياتهم، عدا عن معلومة نقلت من أحد أعضاء الهيئة السياسية بالائتلاف أن الصدام ووحدة النقاشات التي دارت داخل أحد اجتماعاتها بين ممثلي الفصائل العسكرية من أجل الخروج ببيان موحد، فشلوا به ووصلت الصدام لمشادات قاسية كادت تصل للاشتباك بالأيدي بعد تراشق بالكلام، وحتى  الحكومة المؤقتة رفضت توصيف المشهد بشكل واضح، وكان بيانها المقتضب ضبابياً وكأنها رضخت لسياسة الأمر الواقع ولقوة الجولاني.

في تفصيل وتفسير ما حصل هناك من نسب التغاضي التركي لزيادة حالة الفلتان الأمني التي تعاني منها مناطق سيطرة الفصائل في الشمال السوري وأغضبت الأتراك، وبالتالي كان لا بد لمن يستطيع ضبط تلك الفوضى أن يتقدم ويسيطر (الجولاني)، حتى لو كان موضوعاً على قوائم الإرهاب التركية والدولية، سيناريو آخر تحدث أن ما يحصل هو تنفيذ لما تم التوافق عليه في الجولة 19 من جولات مسار أستانا، وأن طريق (الأم فور) مع معبر باب الهوي كانا وما زالا من أهم المطالب الروسية لعودتهما لسلطات نظام دمشق، وأنه يمكن القيام بتفريغ مدينة إدلب وريفها من عناصر تنظيم الجولاني وتسليمها للنظام مقابل انزياح بخريطة سيطرة الجولاني نحو منطقة عملية غصن الزيتون.

البعض الآخر عاد وذكر بشروط الأسد للمصالحة مع تركيا والتي يتضمن بندها الأول انسحاب الجيش التركي من مناطق نفوذه في الشمال السوري، والتخلي عن فصائل المعارضة السورية، واكتفاء أنقرة بمكاسب اتفاق أضنة الموقع عام 1998 والمعدل عام 2010، ويمكن بالتوافق ما بين موسكو وأنقرة ودمشق إعادة إضافة بعض البنود التحفيزية لأنقرة، وأن عملية الجولاني وإصباغ صفة الإرهاب على مناطق نفوذه التي تمددت لمناطق غصن الزيتون وقد تصل لدرع الفرات، قد تكون مبرراً أو ذريعة للأتراك لتنفيذ مطالب نظام الأسد وإتمام طريقة المصالحة بين أنقرة ودمشق.

لكن وبغض النظر عن توافق تلك السيناريوهات مع التطورات السياسية العربية والإقليمية والدولية، تبقى هناك عدة أسئلة أفرزتها الأحداث الأخيرة وهي بحاجة لإجابات ممن يتصدر المشهد العسكري والسياسي في المعارضة السورية:

س1: الاتفاق الذي عقد بين جماعة الجولاني والفيلق الثالث يقضي باستلام هيئة تحرير الشام للملفات الأمنية والعسكرية والاقتصادية بمدن وبلدات وقرى منطقة غصن الزيتون.. ما مصير الحكومة المؤقتة؟

س2: هناك فصائل قاتلت تحت قيادة وراية هيئة تحرير الشام مثل فرقة الحمزات، فرقة سليمان شاه، الفرقة 32، أحرار حسن صوفان، هل ما زالت تلك الفصائل ضمن الجيش الوطني؟

س3: بعد كل ما حصل وما تكشف وما توضح للحاضنة الشعبية من جريمة اغتيال الشهيد أبو غنوم على يد فصيل من ضمن قوام الجيش الوطني، يضاف إلى ما تكشف في سجن الزراعة وما خفي أعظم، هل ما يزال هناك شيء اسمه الجيش الوطني؟

س4: الحاضنة الشعبية تقول: لو أن الأسلحة والذخائر والعناصر التي استخدمت بمعارك الأيام الخمسة الماضية، ومن قبل كل من شارك بالاقتتال البيني، أو بالقتال ضد هيئة تحرير الشام، وجهت باتجاه مناطق نظام الأسد أين كانت ستصل أرتال الهجوم، وكم مدينة يمكن أن تحرر، وكم نازح ومهجر كان عاد لبيته وأرزاقه؟

 

ليفانت - أحمد رحال

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!