الوضع المظلم
الأحد ١٩ / مايو / ٢٠٢٤
Logo
أغيد شيخو
بعيداً عن نوايا مَن ألصق حبة الموز بالعلم التركي، إن كانت تحمل رسائل مبطنة أم أنها لم تتعدَّ طيشاً صبيانياً في لحظة لهو، فالأهم من هذا وذلك، هو البعد السياسي الذي خلقه الموز مصادفة عند اجتماع الزمان بالمكان بالمحفّز، ولتفصيل الأمر، كان لا بدّ من إلقاء نظرة سريعة على تاريخ "الموز وجمهوريته"، فلربما أعطتنا تفاصيل يمكن أن تحمل إجابات على بعض أسئلة الحاضر، وهنا، لن ندخل في تفاصيل "حملة الموز" وما نجم عنها من قرارات بترحيل شبان سوريين خارج تركيا، كونها أصبحت معروفة للجميع.

العلاقة بين "الموز" والإهانة السياسية للدولة

منذ القرن التاسع عشر، بدأ الموز بالتخلي عن براءته ضمن مجتمع الساسة ليتحول لرمزٍ يُراد به الذم والتقليل من شأن الدولة وهيبتها.

القصة بدأت مع إدخال الموز إلى الولايات المتحدة عام 1870 لتصبح الفاكهة الأشهر والأكثر طلباً لدى الأمريكيين وتفوّق في الطلب والاستهلاك الفواكه المحلية نتيجة فوائدها الكثيرة وسعرها المنافس، فبدأت بساتين الموز بالانتشار وحقق أصحابها أرباحاً وصلت لنحو 1000% في بعض الأحيان، إلى أن سيطرت "شركة الفواكه المتحدة" على أغلب أعمال الموز في البلاد، مما أعطاها قوة وتأثيراً مكّنها من الإطاحة برئيس "هندوراس" الذي قرر اتباع سياسة ضريبية لم تتوافق مع الشركة ومصالحها، فعزلته وانتخبت رئيساً جديداً سار مع مصالح الشركة وساعدها لتحقق أرباح خيالية، مكّنتها من شراء مساحات كبيرة من الأراضي في أمريكا اللاتينية، ما حولها إلى قوة سياسية مؤثرة على سياسات البلدان التي تتواجد فيها.

وهذا الهيكل الذي قدمناه باختصار، شكّل الاقتصاد الإقليمي والسياسي في الولايات المتحدة، وهو النظام الذي عرف لاحقاً بـ"جمهورية الموز"، أي الدولة التي يعتمد اقتصادها على نوع واحد من الفاكهة ويتحكم تجّارها "تجّار الموز" بكل مفاصل الدولة.. فتتحول الجمهورية إلى "جمهورية موز" تقوى بقوة التجار وتضعف بضعفهم.

أما التفسيرات الحديثة لجمهوريات الموز، فتشير إلى الدول التي تسيطر على سياساتها شركات خاصة كبيرة، وتلك التي تتمتع ببنية اقتصادية هشّة، أو التي ينتشر فيها الفساد والمحسوبيات وتسيطر على مفاصلها رؤوس الأموال المتحكمة بصادراتها ووارداتها، أو من نالت استقلالها حديثاً عن الاستعمار، وقد ورد  المصطلح على لسان عدد من الرؤساء، كالرئيس الأمريكي "جورج بوش" في إدانته لاقتحام أنصار "دونالد ترامب" الكونغرس الأمريكي بداية العام الحالي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان عام 2014 في معرض حديثه عن "قوة تركيا الاقتصادية وعدم سماحه للمتآمرين، الذين يتلقون الأوامر من الخارج، بالعبث بأمن وأمان تركيا.

هذا البعد السياسي للموز، هو ما دفع بعض المواقع الإخبارية التركية، ومنها TRT HABER، إلى الشك بتورّط أطراف سياسية مرتبطة بنظام الأسد هدفها النيل من سمعة الدولة ومكانتها، وخاصة في ظل تزامن الحملة مع القرار الصادر عن مجموعة العمل المالي الدولية "فاتف" بإدراج تركيا ضمن "القائمة الرمادية" أو "المنطقة الرمادية" لتقاعسها عن التصدّي لغسل الأموال وتمويلها الإرهاب، بحسب بيانها، مما يعني تراجع الاستثمارات الأجنبية بشكل أكبر في بلد تعاني فيه العملة المحلية من انهيار تاريخي ويواجه اقتصاده أوضاعاً صعبة، الأمر الذي دفع تركيا لاتخاذ خطوات سريعة بهدف الخروج من القائمة، كان من بينها عمليات اعتقالٍ وحجزٍ للأموال وإغلاقٍ لعدد من الشركات مؤخراً بتهمٍ مرتبطةٍ بغسل الأموال أو تمويل الإرهاب، والتي شملت أفراداً وشركات سورية وأجنبية عدة.

هل من تم ترحيلهم كانوا ضحايا لعبة سياسية؟

للإجابة على هذا السؤال لا بدّ من النظر في التهم الموجهة إليهم من جهة، ومدى انتشار الفيديوهات ضمن المجتمع التركي من جهة أخرى، وإنما قبل هذا وذاك لا بدّ من الإشارة إلى أن النسخة التركية "الأساسية" من الفيديو تم تصويرها في منطقة "إسنلر" في إسطنبول والمعروفة بالتواجد السوري الكثيف فيها، وبالتالي فإنّ الآراء الواردة في الفيديو هي، بطبيعة الحال، ناتجة عن هذا الازدحام، ولا يمكن تعميم ما ورد فيه على جميع الأتراك وكافة المناطق.

أما فيما يتعلق بالتهم الموجهة لهم، فالبيان الصادر عن المديرية العامة لإدارة الهجرة أشار إلى أن الإجراءات الصادرة بحقهم جاءت نتيجة "المنشورات الاستفزازية التي من شأنها إحداث قلقلة في المجتمع"، دون أية إشارة إلى الدعوى القضائية التي رُفعت ضدهم من قبل "حزب النصر"، حسب بعض المواقع، والذي اعتبر المنشورات "استهدافاً للأمة التركية والعلم التركي".

تهمةٌ، لا نعلم إن كان الحكم فيها بالترحيل، خلال 24 ساعة، منصفاً أو يوازي ما اقترفوه من جرم، خاصة في ظل وجود الكثير من المنشورات المشابهة، التي استُبدل فيها الهلال التركي أو علم الحزب الحاكم بالموز، وتم نشرها من قبل الأتراك أنفسهم خلال السنوات العشر الأخيرة، سواء أكان ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو اعتماد عدد من الكتاب على مصطلح "جمهورية الموز" في الأدب السياسي التركي الساخر.

في الوقت ذاته، ليس المراد بإيراد هذه الحوادث المطالبة بالعفو التام عمّن استخفّ برمز ذي قيمة وجدانية رفيعة لدى الشعب، بقدر ما هو محاولة لمناشدة التخفيف من ذلك الحكم، إذ لا يمكن قبول عدم احترام أو التقليل من شأن الرموز الدينية أو الوطنية للشعوب، على اختلافها، ذلك الاحترام الذي أظهره السوريون في عدد من المناسبات، ومنهم السوريون الذين تطوعوا عام 2017 لخياطة الأعلام التركية وتوزيعها على جميع المدارس المتواجدة ضمن ولاية "شانلي أورفا"، أو حادثة الطفل السوري الذي صادف، خلال جمعه الكراتين من الحاوية، مجموعة من الأعلام التركية المرمية في القمامة، فما كان منه إلا أن أخرجها جميعاً وأعاد ترتيبها ومن ثم وضعها بأناقة على السور المجاور، وهذا جزء من مواقف كثيرة أظهرها السوريون احتراماً لمقدسات البلاد التي استضافتهم على مدى سنوات، مع عدم نكران وجود استثناءات لكل أمر.

كيف حدث "الترند" ومن وراءه؟

أما "البلبلة" التي أحدثتها، أو "الترند" الذي ذكرته، بعض المواقع في عناوينها الرئيسة، فتأكيد أو نفي ذلك يستدعي معرفتنا بـ "ما هو الترند وكيف يصبح موضوع ما ترنداً"؟، والتي قادتنا إلى نتيجة مفادها أن ردّة فعل السوريين المشاركين في الحملة رفضاً لها، كانت أكبر من ردة فعل الأتراك أنفسهم، وهذا ما يمكن معرفته بعملية حسابية بسيطة.

يُعرّف مصطلح "الترند" على أنه مشاركة أكبر عدد من المستخدمين لوسم واحد في أقصر فترة زمنية، فالعاملان الرئيسان إذاً هما "العدد والسرعة"، ودون اجتماعهما لا يمكن للوسم أن يصل لقائمة "الأكثر رواجاً" على "تويتر"، وبتطبيق الأمر على الواقع التركي نجد أنه من أصل مجموع عدد سكان تركيا البالغ نحو 84 مليون نسمة، يستخدم نحو 50 مليون شخص خدمات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها، فيما وصل عدد مستخدمي "تويتر" إلى نحو 11 مليون مستخدم، حسب الإحصاء الصادر عن المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون والاتصالات التركية في شباط 2021، والذي أكد كذلك أن عدد مستخدمي "تويتر" في تركيا قد تخطوا المليون مستخدم يومياً.

وبقياس هذه الأرقام مع "حملة الموز" نجد أن عدد الذين شاركوا المحتوى باستخدام وسم "سوريلي" بلغ في اليوم الأول نحو 18 ألف مشاركة، ليرتفع الرقم حتى مساء اليوم الثالث إلى 29 ألفاً، دون أن نغفل وجود مشاركات كثيرة، من سوريين وأتراك، "تحت الوسم نفسه" ممن استنكروا حملات الكراهية والعنصرية، إلى جانب عدد يصعب حصره ممن استغلّوا الوسم بهدف الإعلان عن منتجات أو أمور لا تمت للموضوع بصلة.

لكن حتى وإن أخذنا الرقم كاملاً كما هو، يبقى السؤال، إلى أي درجة يمكن اعتبار 29 ألف مشاركة من أصل مليون مستخدم يومياً، قلقلة للمجتمع وتهديداً لاستقراره؟ أم أن النظرية الأرجح، هي وجود جماعات وشبكات منظمة على الإنترنت، تحاول قيادة الرأي العام وتوجيهه، بخلق "الترند" أو استغلاله لصالح مكاسب معينة، وفق ما أشارت بعض التقارير، فتتولى فئة صغيرة حكم وقيادة مجتمع بأكمله.

أغيد شيخو

ليفانت - أغيد شيخو

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!