-
دلالات الانسحاب العسكري الأمريكي من الشرق الأوسط
بات واضحاّ لأي متتبع للسياسة الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط ملاحظة أنّ قواعد اللعبة السياسية الأمريكية قد تغيرت من استخدام القوة العسكرية الخشنة ضد المناوئين لها مباشرة، إلى استخدام القوة الناعمة، والتي تعتمد أساساً على مبدأ العقوبات الاقتصادية ضد الدول التي تقاوم سياستها.
إضافة إلى اعتمادها على القوى العسكرية المحلية والإقليمية الحليفة لها في المواجهة العسكرية إذا اقتضت الضرورة ذلك، مع الإبقاء على دعم لوجستي عسكري لعدد محدود من الخبراء والمدربين العسكريين بعيداً عن ساحة المعارك، وهناك من يرجح بأن السبب الرئيس وراء هذا التغيير يعود إلى رفض الشارع الأمريكي من استقبال المزيد من جثامين الجنود الأمريكيين الغارقين في وحول ورمال الشرق الأوسط المضطرب، والذي لم يحقق ما كان يؤمل منه حين التدخل العسكري في أفغانستان 2001 والعراق 2003، تحويل هذه البلدان من أنظمة دكتاتورية قمعية إلى واحات للديمقراطية والاستقرار، لتكونا أنموذجاً تحتذي بهما بقية الدول، سواء عن قناعة أو خوفاً من السيف الأمريكي المسلّط على رقابهم.
لكن حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل، وبدلا من حدوث ذلك التغيير المأمول، فقد حصل العكس من ذلك ونشَأت في تلك البلدان حركات راديكالية دينية، سنية كانت أم شيعية متطرفة، ضد الوجود العسكري الأمريكي لديها، وكان نتيجة هذا التمرد على الوجود العسكري الأمريكي سقوط أضعاف الضحايا الذين سقطوا أثناء معارك إسقاط نظامي أفغانستان والعراق، بالإضافة إلى خسارة الخزينة الأمريكية مليارات الدولارات سنوياً نتيجة هذا التواجد العسكري المكثف، لذلك وجدت أمريكا بأن الأنسب لها الانسحاب العسكري من العراق وأفغانستان والتعويض عن ذلك باستخدام القوى المحلية الحليفة لها ودعمها لوجستياً، كما حصل بتجربتها الناجحة- بالنسبة لها- في تدخلها في سوريا، من خلال دعمها لقوات سوريا الديمقراطية في محاربة داعش ودعمها لوجستيا وجويا، دون أن يفقد جندي عسكري أمريكي واحد حياته في المعارك، بينما فقد من قوات قسد أكثر من 11 ألف قتيل، وأكثر من 25 ألف جريح، كما أن الكلفة المالية أقل بكثير مما لو دخلت المعارك عبر جنودها على الأرض، كما أن العقوبات الاقتصادية على النظام باتت تعطي نتائجها، وتثقل كاهل النظام يوماً بعد آخر، لدرجة بدأت الأصوات ترتفع من داخل حاضنة النظام تطالب بإيجاد مخرج من هذا الوضع الكارثي، ويتم تحميل النظام مسؤولية ذلك تحديداً، وأبقت بذلك أمريكا من خلال هذه السياسة كلاعب أساسي في المعادلة السورية، ولايمكن لروسيا تجاهل دورها في أي حل سياسي، رغم وجود أكثر من 70 ألف عسكري روسي على الأرض السورية، وتكبدها المليارات من الدولارات نتيجة هذا التواجد العسكري سنوياً، إضافة إلى خسائرها البشرية.
كما أن أمريكا أعطت الضوء الأخضر لتركيا بالتدخل عسكرياً في ليبيا، في مواجهة التدخل الروسي، ونتيجة لذلك فقد حققت التوازن العسكري المطلوب في ليبيا، ولم يسمح للروس بالاستفراد بها، وعليه فقد بقيت اللاعب الأساسي لأي حل سياسي في ليبيا دون أي تدخل عسكري ودون خسارة مادية، واليوم أوكل لتركيا مهمة القيام بالدور نفسه تقريباً في أفغانستان، وذلك من خلال إرسال 20000 جندي تركي إلى أفغانستان، تعويضاً عن انسحابها، لتقوم بدعم الحكومة الحالية ولعب دور رئيسي في أفغانستان، في المصالحة بين الحكومة الأفغانية وطالبان، وعدم السماح لروسيا للعب أي دور في أفغانستان، لا بل قد توجه طالبان بخلق المشاكل لروسيا، ولإيران خاصة، لما توجد بينهما من خلافات مذهبية تاريخية، واستثمار ذلك أمريكيا في زعزعة إيران، وفتح جبهة جديدة معها دون كلفة تذكر، كما أن هناك مباحثات مع الحكومة العراقية لبناء شراكة استراتيجية معا، وهذا ما سيؤدي تلقائياً إلى حصول نوع من التصادم بين الجيش العراقي المدعوم أمريكياً من جهة، وبين الحشد الشعبي الشيعي المدعوم إيرانياً، وهكذا تمارس هذه السياسة الآن في اليمن أيضاً.
وإذا نظرنا للموضوع من وجهة نظر السياسة الأمريكية، نرى أنها ناجحة أمريكياً، وغير مكلفة عليها، لكنها لا تؤدي إلى خلق حالة استقرار مستدام، لا بل تؤدي إلى خلق حالة فوضى مستدامة، مما يؤدي إلى خلق دول فاشلة، وهذا ما يرجحه الكثير من المحللين، بأن هذه السياسة متعمدة من جانب أمريكا وهدفها خلق الفوضى الخلاقة في المنطقة برمتها، لإعادة ترتيب جديد لخريطة الشرق الأوسط السياسية، وفقاً لتصوراتها ومصالحها ووفق ما نادت بها كونداليزا رايس، وزيرة خارجية أمريكا في عهد بوش الابن 2005.
ليفانت - فؤاد عليكو
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!