-
رواندا من بلد المجاعة والحرب الأهلية إلى سنغافورة القارة الأفريقية
حين تنظر إلى الخريطة وتحديداً في منطقة البحيرات العظمى وسط القارة الأفريقية، تجد دولة صغيرة اسمها رواندا التي كانت تعاني من القتل والحرب الأهلية والمقابر الجماعية، مع انهيار الاقتصاد وانتشار برك الدماء وأعداد الجثث والموتى تملأ الشوارع، إضافة إلى المذابح العرقية والتهجير.
كل ما ذكرته وأكثر ارتبط باسم رواندا، البلد الأفريقي الذي كان اسمه يتردد أمامنا يومياً في سنوات التسعينات من القرن الماضي، ومُعظمنا يتذكّر نشرات الأخبار وحديث الصُحف وهي تنقل صور الإبادة والقتل على الهويّة، ويشاهد صور الجرّافات وهي تدفن آلاف الضحايا، وقعت رواندا فريسة لحرب أهلية بين الأغلبية من عرقية الهوتو _التّي تُشكّل أكثر من 80% من السكان_ وقبائل التوتسي، التّي تُشكّل النسبة الباقية.
في عام 1994، اُغتيل الرئيس الرواندي هباريمانا بإسقاط طائرته لدى هبوطها في كيغالي لدى قدومها من تنزانيا، وكان على متنها رئيس بورندي المجاورة وعدداً من كبار مسؤولي البلدين. ومهّد هذا الاغتيال للمجازر العرقية التّي أودت بحياة مليون شخص، وهو ما يُمثّل 10 بالمئة من عدد السكان البالغ، آنذاك، نحو 11 مليوناً في عمليات إبادة، كانت السيوف والخناجر والسكاكين تُستخدم فيها أكثر من الكلاشينكوف، واُضطر أكثر من مليونين من عرقية الهوتو إلى الهرب من شبح الانتقام إلى دولة زائير المجاورة، وازدحمت السجون في الداخل الرواندي بأكثر من 120 ألفا من المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة.
بعد تلك الحرب تمكّنت الجبهة الوطنية من السيطرة على البلاد، وعُيّن كاغامي نائباً للرئيس بيزي مونجو، لكن البلاد غرقت في الفوضى في السنوات الخمس التي تلت الحرب، وفشلت الحكومة في إيجاد حل لهذه الأزمة.
عاشت رواندا أسوأ فتراتها على جميع الأصعدة، منها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبدا الأفق يضيق أمام مونجو وحكومته أكثر فأكثر، فتنازل عن منصبه تحت الضغط إلى نائبه كاغامي عام 2000.
ما يهمنا، وما يرتبط بأوجه المقارنة مع أوضاع بعض بلداننا العربية الآن، أنّ رواندا نفضت عن نفسها غبار الحرب وأصبحت دولة متقدمة في معظم المجالات.
ولنسأل الآن، كيف صنع الشعب الرواندي المعجزة؟ وللإجابة على ذلك، فإن البلد لجأ ببساطة إلى خطة من هدفين، وهما توحيد الشعب أولاً، وانتشال البلاد من الفقر ثانياً، ولتحقيق ذلك تمت مصالحة مجتمعية وكتابة دستور جديد وحظر استخدام كلمتي التوتسو والهوتو، وتجريم أي خطاب عرقي وقبلي، وعودة المُهجّرين والنازحين إلى ديارهم، وتشكيل محاكم لإزالة الظلم واسترداد الحقوق المسلوبة.
نجحت خطط الحكومة في فرض الأمن والاستقرار وفي ترسيخ مناخ من الثقة المتبادلة بينها وبين الشعب، ومع التقدم في الملفات الاجتماعية، وجّهت الحكومة طاقتها للتنمية وتطوير الاقتصاد والدفع بعجلة الاستثمار والبناء، وقدّم الخبراء والمُختصّون دراسات تحولت لرؤية “رؤية 2020” الاقتصادية، تشتمل على 44 هدفاً في مجالات مختلفة.
يقوم الاقتصاد الرواندي على حرفتي الزراعة والرعي، حيث يعمل بهما أغلب القوى العاملة، وتتوزع الزراعة على مناطق متفرقة من البلاد، وضعت الحكومة خطة لتطوير الزراعة وجلبت خبراء أجانب من أجل هذا الهدف، وأنشأت شبكة هاتف للمعلومات الزراعية ومكاتب للتصدير وللتخزين ولنقل المحاصيل، ووفّرت الأسمدة بأسعار رخيصة للفلاحين، وأجّرت مُعدات فلاحية بأسعار رمزية ومشجّعة، كما قدّمت قروضاً مُيسرة للمزارعين، لتظهر النتيجة سريعا وخلال 5 سنوات، وتحولت رواندا من بلد يعاني من سوء التغذية وانتشار المجاعة، إلى بلد يُحقق أمناً غذائياً، فأصبحت رواندا تنتج وتصدر البن والشاي والتبغ وقصب السكر والموز، كما زادت ثرواتها الحيوانية من الماعز والبقر والأغنام، إضافة إلى ما تحتويه من ثروات طبيعية، على غرار القصدير الذي يستخرج من شرقي بحيرة كيفو.
ولم تقتصر خطة الدولة على تطوير الزراعة فقط، بل شجعت الاستثمارات الخارجية، بتأسيسها مجلساً استشارياً للاستثمار والتطوير، يضم كفاءات رواندية عليا، منتشرة في مختلف دول العالم، وألغت التأشيرة لجميع الأجانب، وسرعان ما تمكنت هذه الأهداف من تحقيق المعجزة، وارتفع متوسط دخل الفرد عام 2015 إلى ثلاثين ضعفاً، عما كان عليه قبل عشرين عاماً.
وأصبحت البلاد أكبر جاذب للاستثمار في محيطها الإقليمي، من خلال تطبيق برنامج الشباك الواحد، الذي يتيح للمستثمرين ورجال الأعمال استيفاء وثائقهم المطلوبة من أجل استكمال مشاريعهم عبر شباك واحد، دون الحاجة للتنقل وبعيداً عن سياسة دفع العمولات والرشاوى والزبونية والطبقات المستفيدة والمتنفذة التي انتشرت في بلداننا، حيث يمكن إنشاء شركة في يوم واحد أو بضع ساعات فقط في رواندا، عكس ما يلاقيه المستثمر في دول كثيرة، من معاناة وانتظار يصل إلى أسابيع أو شهور لكي يحصل على ترخيص للاستثمار.
حقق الاقتصاد الرواندي بفضل هذه الإجراءات قفزة نوعية وسريعة، جعلته من أسرع البلدان نمواً في القارة الأفريقية، وحقق اقتصادها نمواً يقدّر ب9 بالمئة سنوياً، بين عامي 2000 و2015، وانخفض الفقر من 60 بالمئة إلى 39 بالمئة، والأمية انخفضت من نصف السكان إلى 25 بالمئة فقط، وبحسب تقارير أفريقية، فإنّ رواندا شهدت التطور الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم منذ 2005، وارتفعت قيمة الناتج الإجمالي المحلي إلى نحو 8.5 مليارات دولار العام 2016، بينما كان نحو 2.6 مليار عام 2005. وغيرها من أرقام تكشف عن معدلات تنمية وتطور تذهل من يسمعها ويتمعّن فيها، بل الذهول أيضا يصيب القارئ حين يعلم أن رواندا دولة داخلية بلا سواحل، وأنّ صلتها بالعالم الخارجي لا تتم إلا عن طريق جاراتها، وخاصة عبر مينائي دار السلام بتنزانيا ومومباسا في كينيا.
أصبحت الدولة الرواندية سنغافورة القارة الأفريقية، والوجهة السياحية الأولى وسط أفريقيا، رغم أنّها لا تشتهر بشيء يميزها عن الدول المحيطة بها سوى حيوانات الغوريلا، وقد صُنفت العاصمة كيغالي من أكثر المدن أمناً على مستوى القارة، وتحتل مكانة متميزة بوصفها واحدة من أنظف المدن الأفريقية وأجملها، وقد بلغت إيرادات السياحة أكثر من أربعمائة مليون دولار عام 2016.
بعد تحقيق الاستقرار المجتمعي وتطوير الاقتصاد ودفع عجلة التنمية، وبعد أن تبوّأت رواندا مكانة إقليمية، حوّلت الحكومة وجهتها للاستثمار في مجال الاتصالات والأقمار الصناعية، حيث أطلقت البلاد أول قمر اصطناعي، خاص بالاتصالات وتطوير نظامها التعليمي وربط مدنها النائية ببعضها البعض.
وفي تصريح لبولا إنغابيرا، وزيرة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرواندية، قالت: “إنّ الاستثمار في تكنولوجيا الفضاء جزء من مهمتنا الكبرى التي تتمثل في سد الفجوة الرقمية، من خلال توفير فرص رقمية متكافئة للمجتمعات الريفية والنائية”.
استطاعت رواندا مواكبة التطور والخروج من مستنقع الفقر والمجاعة والحرب الأهلية، وذلك بمحاربة الفساد وحسن التصرف في الإدارة، والحوكمة الرشيدة، والدفع بعجلة التنمية، ومحاربة الأمية، وتحسين ظروف العيش للمواطن الرواندي، بدءاً بخدمة الإنترنيت السريعة، وتحسين قطاع المواصلات، والقضاء على الخطابات العنصرية والقبلية، وبناء هوية وطنية موحدة لعموم الروانديين، لا تقصي أحداً ولا تعترف بالهويات الفرعية.
وفي هذا السياق، لخّص أحد خبراء الاقتصاد الروانديين تجربة رواندا قائلاً: “إذا استطعت أن تجعل المطار خالياً من الفساد والرشوة، وخدمة الإنترنت في البلاد سريعة، وإجراءات الاستثمار بسيطة، والشباب يتحدثون الإنجليزية، فإنّك ستحصل على دولة فعالة، وسوف تجذب الشركات والمستثمرين من كل العالم”.
وبفضل هذه القفزة الاقتصادية السريعة، أصبحت رواندا واحدة من الدول العشر الأكثر استقطابا للمستثمرين، في أفريقيا، مع إثيوبيا القوة الصاعدة أيضاً، وذلك وفق معايير مختلفة، مثل الناتج القومي الخام ومؤشر النمو الاقتصادي وجودة مناخ الاستثمار وحجم السوق.
وتوصف الحكومة الرواندية، على نطاق واسع، كواحدة من أكثر الحكومات كفاءة ونزاهة في أفريقيا، حيث وصفت صحيفة فورجن في مقال نشرته مؤخراً بعنوان: “لماذا يحب المدراء الكبار رواندا؟” وسرعان ما تجيب رواندا عن نفسها، بأنّ العاصمة كيجالي هي أول مدينة في أفريقيا تتشرف بأن يُمنح لها جائزة زخرفة المساكن، مع جائزة شرف لاهتمامها بالنظافة والأمن، والمحافظة على نظام المدينة النموذجية، وفي سنة 2008، دخلت رواندا التاريخ بوجود أول مجلس تشريعي منتخب تمثل فيه النساء أغلبية، وفي نوفمبر 2009 أصبحت رواندا عضواً في دول الكومنولث، حيث إنّها واحدة من دولتين في الرابطة، لم تكن يوماً مستعمرة بريطانية سابقة.
ما أحوجنا اليوم إلى نهضة مماثلة، فهل نعجز كبلد يحمل إرث حضارة تمتد إلى أكثر من 3000 سنة، إلى أن ننجز ما حققه بلد أفريقي بسيط الإمكانيات؟، حكاية رواندا لخّصها أحد خبرائها الاقتصاديين، وهو “كليت نييكزالا”، بالقول: “لإنشاء دولة ناجحة لا تحتاج لإعادة اختراع العجلة، بل يكفي أن تستفيد من تجارب الآخرين”، وعلى هذا الصعيد تحديداً أوفدت الحكومة عدداً كبيراً من اللجان إلى دول أخرى للاستفادة من تجاربها.
لماذا نعيد نفس سياسة الفشل والتخبط، بإسقاط المشاريع الخارجية الفاشلة إسقاطاً على مجتمعاتنا العربية، ولا نسير على درب سنغافورة وماليزيا وأثيوبيا ورواندا؟، هل يأتي علينا يوم نستخلص فيه الدروس، ونأخذ العبر، ونحتذي بنماذج حققت المستحيل، فقط، بفضل توفر العزيمة والإرادة الحُرّة، وتغليب مصلحة الدولة على المصالح السياسية الضيقة، وإنهاء المحاصصة السياسية المتحكمة في مصير الشعوب؟ وهل أبلغ ذلك يوم الذي تخرج فيه العرب من مرحلة المفعول به تاريخياً إلى مرحلة الفاعل؟
ليفانت – ماهر لطيف
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!