الوضع المظلم
الأربعاء ٢٥ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
صراعات مديح الكراهية
بسام سفر

يحتاج الصراع في أي عمل أدبي إلى موقعين يترسمان بنظرة كل موقع للآخر، فيرى اختلافه معه مولداً دينامية الصراع والحركة والنمو والتحول. لكن اختلاف موقع مع موقع آخر، إنما هو اختلاف بالنظر إلى موضوع، ضمن وضعيه اجتماعية معينة، في زمن تاريخي معين، لذا فإن اختلاف موقع مع آخر ليس هو فقط اختلاف عنه، بل هو أيضاً اختلافه معه على موضوع، وهذا يعني أن الصراع بين موقعين ليس هو صراع الذوات المجردة، إنما هو صراع في واقع ولواقع يخص الناس ويجدون لهم مواقع فيه، يظهر هذا الصراع في رواية مديح الكراهية للروائي والكاتب الدرامي الراحل خالد خليفة الصادرة في العام 2006 عن دار "أميسا للنشر والتوزيع"، على الشكل التالي:

صراعات الأسرة والأخوة

تبدأ صراعات الأسرة بالأب الذي يوزع إرثه بين أبنائه، ويلزمهم بالإبقاء على رضوان الأعمى الذي يصبح رفيقه يشرف على أكله ونومه وذهابه إلى الجامع والسوق لتفقد أوضاع أبنائه، بموت الأب تختتم جولة صراع شديدة مع الحياة، وتستأثر مريم بغرفة أبيها، وتعيد ترتيبها لتفتح صراع مع رضوان حول مضمون رسائله إلى شركات العطور الفرنسية.

ويظهر صراع مروره مع زوجها عبد الله النيشاني الذي يضربها عندما يكون مخموراً ومحششاً ويركلها بقدمه، ويشتم أهلها ويتهمها بتخريب حياته، وعودتها  لمنزل أهلها يعطيها حياة جديدة عبر أغانيها المحببة "الأولى في الغرام أو فكروني" بصوتها الرخيم العذب، وإلى جانبها أختها صفاء التي تستمتع لصوتها وتنتابها حالات صداع مزمن وشرود طويل.

ويثير أخوهما عمر قلق العائلة بسبب تهتكه، وعلاقته بزوجة مسؤول كبير في المدينة وشجاره معه ما دفعهم لكتابة حجب مدروزه ومغلفة بقماش علقتها برقبته لتهديه للطاعة والحشمة والسمعة العطرة التي أكملت شهرها الأول، عاد بعدها لتهتكه باحثاً عن فضائح يقدم عليها بدم بارد وثقة متناهية، متحرشاً بالنساء المتزوجات والفتيات المراهقات، رافق العاهرات علناً إلى المطاعم، عاش في شققهن لأيام عديدة دون احتراس.

ليعود بعدها إلى زهده ورجاحة عقله، ويلعب دوراً كبيراً في زواج صفاء من عبد الله اليمني، وسفرهما إلى أفغانستان، وتخبر أهلها أنها حامل، فتزغرد مروة أختها، هذه الأجواء تنعكس في لقاء عائلي يتصدره عمر يستعرض فيه مخللاتها، وسرديات الأسرة بحنين حيث يستخدمون الصحون والملاعق الفضية، وسخرية أخيه بكر من أخيه سليم لتصوفه وجلوسه وحيداً بعيداً يأكل عن طاولة الطعام بصحن ألمنيوم مكتفياً بالخضار واللبن والتمر، تاركاً ملذات الدهون واللحوم المطبوخة التي غطت زوارق الفريكة المجللة باللوز المحمص.

وتتصاعد صراعات العائلة عندما تقيم مروة علاقة مع ضابط من الطائفة الأخرى، ويقرر أخوها بكر منعها من الخروج من المنزل نهائياً، وترد مروة شاتمة ابنة أختها التي أخبرته، ولا تستجيب لقراره، وتستمر في الخروج لرؤية الضابط نذير المنصوري الذي يخدم في سرايا الموت، وتقرر الزواج منه بعد اعترافها بحبها له، لكن رجال بكر حضروا إلى البيت وربطوا مروة برجل سريرها عبر سلسلة طويلة وأغلقوا فمها، وأخبروها أن المنصور قتل.

وتنقل مروة فراشاتها من أرض الدار إلى غرفتها وبدأت تلونها، وسألت جنود الضابط نذير عنه، فأخبروها أنه حي ويتعالج في المشفى، وأرسلت له رسالة عن وضعها بسبب حبها له، فرد عليها برسالة مع الجنود لم تعرف محتواها سوى زهرة زوجة بكر صديقتها.

وتمتنع مروة عن الحديث مع الجميع في البيت بما فيها أختها مريم وابنة أختها، وتنظر إليهن نظرة احتقار رغم محاولات التودد من قبل ابنة الأخت، وفك جنزير حبسها في الغرفة، ويخرج نذير من المشفى يتكئ على عكازه، ويذهب إلى بيت مروة مصطحباً معه شيخاً وشاهدين وثلاثة عساكر، فتحت مروة باب غرفتها وأعدت نفسها كعروس بعد أن حطم أحد العساكر قيدها بمنشار حديدي، بإعداد مراسم الزواج، ومريم تضرب رأسها بحذاء، تولول ثم تنحني على قدمي نذير راجية ألا يفتح قناة دماء ستغرق الجميع، أخرج نذير من جيبه ثلاثة عشر رسالة حب بعثت بهم مروة إليه ورد بمثلها، كان لطيفاً وهو يحاول شرح رغبتهم بالزواج رغم اختلاف الطوائف.

ويظهر رد فعل ابنة الأخت بقولها: "لم أستطع احتمال المشهد، تمنيت لو أنني أمتلك مسدساً أو بندقية لانتقمت من مروة التي كانت تبتسم، لم تمانع حين مد يده إلى حجابها وخلعه، لوحت بشعرها الطويل كغجرية وتناثرت منه رائحة عطر طيبة، حمل أحد العساكر حقيبتها الصغيرة، لوحت لنا مروة وخرجت من باب الدار متلكئة كعروس دون أن تودع أحداً منا وسط ذهولنا".

وتذهب مريم وابنة أختها إلى بيت سليم تطلب منه رد فعل عما فعلته أخته، لكنه يقرأ القرآن فتمزق كتابه، فيلملم الكتاب وهي تبكي، ويقبل صفحاته، واصفاً أخته بالكفرة والمجنونة، ويترك الغرفة هارباً إلى الجامع القريب.

صراع الإخوة:

يتجلى صراع الإخوة الداخلي في التنظيم عبر الخلافات التي عصفت بين بكر مع قيادة الحزب، وأصبح مع ثلاثة من رفاقه الأكثر تشدداً مسؤولاً عن الاغتيالات وقتل أبناء الطائفة الأخرى، ويلعب بكراً دوراً قيادياً إذ أنه بارك حماس فتيات التنظيم، ورفض طلب عليا التي تلت قرار تكليف ابنة أخته بتنظيم طلبة كلية الطب. وبرع الروائي خليفة في رسم  شخصية حسام بصراعها الداخلي الذي اغتال الضابط أمام منزل جده، ولكنه عندما يراجع ذاته عن الأفعال التي ارتكبها يخبر أخته عن رغبته في الهروب والذهاب إلى مكة ليكفر عن ذنوبه بقتل مدنيين أبرياء من الطائفة الأخرى، بينما أخته تطلب من خالها بكر الابتعاد عن التنظيم والسفر إلى بيروت، ويعتقل حسام.

وجرت محاكمة لإحدى فتيات التنظيم بسبب امتلاكها ألبوم صور جنسية تحتفظ به داخل ملاءتها ولا يفارقها، بالإضافة لتعرفها على شاب ينتظرها خلف كلية الآداب بعد محاضرة العروض مساء يومي الثلاثاء والخميس، وفي المحكمة أقسمت عنود على القرآن أن تقول الصدق، وصرّحت أنها رأت ذلك الشاب يمسك بيدها ويقبلها، ثم أشارت إلى مكان وجود الألبوم داخل ثيابها السوداء "فاندفعت نحوها دون إذن، فتشتها بعنف، أخرجت الألبوم واستغفرت الله على فحش صور تظهر أعضاء الرجال مبتسمين، أمسكتني عليا و أبعدتني، وعدتني بقصاص رهيب يشفي غليلنا ويعيد لنا سمعتنا كبنات محتشمات ومجاهدات، لم أستطع الانتظار، خرجت من منزل عليا وأحسست جسدي قذراً بحاجة للاغتسال".

وتتعمق الصراعات الإخوانية الدينية بين الشيخ جميل الذي كان محايداً في لحظات ما، ويعد ممثل وسطي للتيارات الدينية حين تختاره السلطات للتفاوض مع قيادة الجماعة، وفي الجلسة الأولى يحاول التقرب منهم، لكن رفاق بكر يصنعون أمامه خطبة وكلماته مدونة عليها تعليق بخائن الإسلام، ويكملون التفاوض معه ملحين إلى عدم الثقة بالسلطة وإلى قوتهم.

وتشن السلطة حملة عسكرية أمنية تداهم 76 منزلاً، منهم ستة منازل مراكز لاجتماع القيادة ومستودعات أسلحة، وترد قيادة الجماعة بذبح الشيخ جميل، وتتراشق قيادة الجماعة الاتهامات بقتل الرجل، بينما تتوعد السلطة بالانتقام من القتلة.

ويلتقي الأمير شكري من قادة الجماعية بنات الجماعة بوجود الحاجة سعاد، وسأل ابنة أخته لبكر لماذا لم يستطيعوا وقف زواج مروة، وعزلها من أمارة طالبات كلية الطب والجامعة، وأثنى على بكر ووصفه بالمجاهد الكبير ورفض تقديم أي معلومة عن سجن حسام في تدمر وأن قيادة الجماعة فخورة بصموده.

ويهرب بكر من حلب وسوريا إلى لندن العاصمة البريطانية، ليستقبل فيما بعد ابنه أخته الدكتورة التي تكمل اختصاصها، ويكتب لجريدة الشرق الأوسط قراءة في تجربة جماعة الإخوان في سوريا.

الصراع مع السلطة:

تبدأ أولى المعارك مع السلطة في اغتيال الطيار عباس من قبل حسام الذي أخفى مسدس الاغتيال في كيس البرغل، وهو جار بيت الجد، إذ غطى الناس جثة الطيار بحرام صوف، وثاني المعارك عندما اختار الضابط المناوب سبعة عشر شاباً من طلاب الكلية الذين سيصبحون ضباطاً بعد أشهر قليلة، وببرود شديد صفهم على الحائط وأعدمهم بطلقات بندقيته السريعة الطلقات، أما المعركة الثالثة كانت عندما قتلوا الدكتور عبد الله الدالي، أستاذ الفيزياء في كلية العلوم، الذي لم يعرف قاتله الذي ضاع دمه بين الجماعة وبين قائد سرايا الموت حيث انتشر المظليون، وفتشوا بدقة كل الطلاب قبل الدخول إلى كليتهم، مئات الجنود تغلغلوا في الشوارع القريبة، كسروا أغصان الأشجار بعصبية، أوقفوا الناس وصلبوهم على الجدران، حين اندلع صوت الرصاص في مناطق قريبة بدت حلب مدينة تحترق، سمحوا للنساء بالخروج.

ويصف الروائي خليفة المعركة الرابعة في اشتباك باب الأحمر الذي رواه سكان الحي برعب يقترب من الخرافة، عن أربعة شبان صغار كانوا ينصبون كميناً لسيارة ضابط كبير في سرايا الموت يرتاد منزل صديقه الحلبي أحياناً، استهتارهم في منطقة يعتبرونها موالية لهم بالكامل جعلت أمر تطويقهم في غاية السهولة، هرب حسام عبر المنازل والأسطحه إلى مقبرة باب الحديد المعلقة، بعد ساعتين نفذت ذخيرته القليلة، استسلم بعد أن جرح في صدره وفقد الوعي تماماً.

في حين كانت أعياد ميلاد العام1981 إنذاراً لمدينة حلب التي أصبحت مدينة المآتم، في كل زاوية تنتشر رائحة الموت، منع التجول ليلاً وحوصرت المدينة، منع الدخول إليها والخروج منها لخمسة عشر يوماً، كانت كافية لتفتش كل بيوتها، لم يترك درج خزانة لم يفتح، استباح أسرارها أربعون ألف جندي في سرايا الموت والقوات الخاصة بالإضافة إلى الفرقة العسكرية الكاملة التي تحاصرها من كل الأطراف.

المدينة بعد الحصار فتحت أبوابها الثكلى، انسحبت الدبابات إلى حقول الفستق، الحزن والخوف في عيون الناس اعتادوا خفض رؤوسهم أذلاء، عبث الرصاص جعل رجالها مجوفين بلا أحلام.

أما المعركة الخامسة كانت بين شخصية سمير النيربي الذي هرب من كمين ليلي لأحدى دوريات المخابرات، اشتبك معهم من مكمنه، فرغت جعبته من الرصاص، لم يجد أمامه سوى فرن باب النصر فرمى نفسه في بيت النار، تاركاً الزبائن القليلين يتقيؤون، الجنون استبد بالجنود فأفرغوا مخازن رشاشاتهم في جثته التي تفحمت وسط تكبير المارة باسم الله ورعب الجنود الذين طوقوا المنطقة ليمارسوا عبث الانتقام من جثة متفحمة لم يبقى منها سوى الرماد الأسود الذي تطاير.

وبعد جولة المفاوضات التي قادها الشيخ جميل، وفشلت فشلاً ذريعاً خرجت السيارات العسكرية وحاملات الجند من الثكنات بكثافة غير معهودة لتحاصر أحياء بكاملها، وتداهم ستة وسبعين منزلاً منهم ستة منازل كانت مراكز لاجتماع القيادة ومستودعات أسلحة، استمرت المعارك أكثر من اثني عشر ساعة وبقيت تفاصيلها غامضة مع انتشار الإشاعات صباحاً.

أما المعركة التي اتخذت معالم كبيرة هي قتل مساجين سياسيين في السجن الصحراوي، ويرفض الضابط نذير المشاركة فيها، ويترك الجيش بسبب هذه العملية التي قتل فيها أكثر من 800 سجين قتلوا خلال أقل من ساعة، حملت البلدوزرات جثثهم إلى مكان سري لترميها في حفرة لا أحد يعرف شكلها وعمقها ورائحتها، من يدخل إلى حلب وحماة يظن أن عيداً للبكاء قد ابتدأ في ساعات المساء الأولى.

يصعب رصد كافة الصراعات التي تحتويها رواية مديح الكراهية للراحل خالد خليفة خصيصاً أن العديد من الشخصيات لا يقف ملعبها على سوريا فقط، وإنما تتعدها إلى أماكن عديدة منها (تركيا، اليمن، السعودية، مصر، أفغانستان، لبنان، وأوربا).

فالصراعات التي تخوضها هذه الشخصيات من سوريا إلى المجاهدين في أفغانستان، وصراع الأخوة الماركسيين في اليمن الجنوبي، وتحول شخصية أساسية من الماركسية إلى الإسلام السياسي الإخواني، وإلى نقل التجربة الإخوانية بعد فشلها إلى الصحافة العربية عبر صحيفة الشرق الأوسط.

أخيراً.. فضاءات رواية مديح الكراهية وصراعاتها يصعب رصدها في قراءة واحدة، وإنما تحتاج إلى بحث خاص.

 ليفانت -  بسام سفر                                           

 

   

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!