-
ضياع البوصلة في العالم
بين ضلعي الحرب العسكرية والحرب الاقتصادية المالية تلوح في الأفق معالم الضلع الثالث الذي يجسّد معالم النظام العالمي الجديد القائم على إعادة التوازن، فالمعروف في علم الرياضيات والهندسة أنّ المثلث من أكثر الأشكال الهندسية توازناً وقوة مع الاختلاف في شكله وصفاته، حيث يشكّل المثلث متساوي الأضلاع التوازن الأشدّ صلابة وتوازناً.
إذا أسقطنا هذه المعادلة على الواقع العالمي المتعدّد الأطراف الذي نعيشه حالياً يتبيّن لنا أن بوصلة العالم في حالة ضياع انهدامي وكارثي، فالحرب العسكرية والتلويح بالنووية قد تؤدّي إلى فناء البشرية، وبالتالي انعدام الحياة على كوكب الأرض الذي طالما دفعت الأجيال الآدمية الثمن بالحفاظ عليه بالدم والحكمة والإبداع عبر التاريخ (سقوط الإمبراطوريات وما يرادفها)، من ناحية أخرى، ونظراً لاعتقادي باختلال توازن المنظومة العالمية، سياسياً وقانونياً وحقوقياً وأخلاقياً وعسكرياً وثقافياً، بعد سقوط حلف وارسو وانحلال الاتحاد السوفياتي، بدا واضحاً أن الضلع الوتر في المثلث القائم ذي الأضلاع الصغيرة الأخرى هي الولايات المتحدة الأمريكية التي تشكل القوة العسكرية والاقتصادية والمالية الأضخم عبر التاريخ، ولكن المثلث بهذا الشكل الهندسي أضحى ضعيفاً ومعرّضاً للتدحرج وعدم الثبات، وخصوصاً أنّ سياسات أمريكا البراغماتية انعكست بشكل مباشر على عوامل الثقة لدى الدول الأخرى فأضحت في معظمها تدور مرغمة في فلك تلك السياسات مما أدّى الى انحسار دورها على الصعيد العالمي والإنساني بما يعزّز الاستقرار والأمن والسلام في أرجاء العالم.
إنّ العقوبات الاقتصادية والمالية الغليظة بمستواها ومحتواها والحصار والعزل الذي تقوم به أمريكا والغرب عموماً على روسيا الاتحادية يصب في اعتقادي بضياع البوصلة العالمية لأن تلك العقوبات تنعكس على معظم دول العالم بتأثير مباشر يؤدّي إلى تضخم اقتصادي عالمي غير مشهود قد يصل إلى 25% في حال استمرار هذه الأزمة لمدة ثلاثة أشهر، بالإضافة إلى تراجع احتمالات الحوار بالحلول الديبلوماسية نتيجة الفعل وردود الفعل التي تُبنى بها سياسات الدول في حالة الضغوطات المختلفة الكبرى.
الفرصة الآن حسب اعتقادي هي تلبية المطالب المشروعة وانكفاء الناتو ضمن جغرافيا محددة المعايير لتعزيز الأمن والسلام العالمي بدلاً من الاستفزازات السلبية الجوانب، ولعل ارتدادات الحرب بنواحيها الإيجابية (بالرغم من مناهضتنا للحروب)، بناء منظومة عالمية جديدة تعتمد على التجمعات الإنسانية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية تدفع بمسارات التنمية والنهوض بدلاً عن الأحلاف العسكرية، لاستدامة الاستقرار والسلام العالمي، وتساهم في نزع السلاح النووي من أرجاء المعمورة للحفاظ على كوكبنا، مع تسويات عادلة ومستدامة للنزاعات في مختلف مناطق العالم.
ولعلّ الضلع الثالث المفقود الذي سيحقق التوازن للمثلث المتساوي الأضلاع، هي الصين ودول البريكس، التي ستكون صمام الأمان للعالم في أزمات مشابهة.
الآن، ولكي تتوضح أبعاد المشهد الحالي، علينا معرفة مفهوم "الأمن الجماعي" السائد وتطوراته تحت ضغط التحولات التي شهدها النظام الدولي خلال الفترة الماضية، والتي مفادها أن أمن المجتمع الدولي يشكّل وحدة واحدة لا تتجزأ (وهو معاكس من حيث الجوهر لمفهوم "توازن القوى" الذي يرى أن الأمن مسؤولية ذاتية تقع على عاتق كل دولة على حدة)، ومن تلك الدلائل نؤكد ضياع البوصلة العالمية وضرورة التغيير القائم على الحق والعدل للمجتمعات لخدمة الإنسان في كل مكان.
إن قضية الأمن العربي اليوم بحاجة إلى قراءات جديدة، في زمن تكاد فيها رياح الحرب تعصف بالأمن والسلم الدوليين، وإن تبعاته واستحقاقاته ستلقي بظلالها على العالم بأسره، مما يتطلب من العرب العمل المشترك والتضامن الواقعي والتنسيق الشامل، عبر توجيه القدرات وترشيد الإمكانات لمواجهة المجهول القائم والقادم، وهي مسؤولية تقع على عاتق كل الدول العربية، لدعم أمن واستقرار المنطقة العربية والعالم.
من جانب آخر لتبعات الحرب شرق أوروبا، ظهور تيارات التعصب العنصري وصعود اتجاهات التعصب القومي وهو خطر يهدّد أوروبا ذاتها (ضد دور الشعب الروسي في الفن والثقافة والرياضة) وتحويل ملفات الهجرة والنزوح إلى استغلال سياسي وورقة مساومات، في الوقت الذي تتحول فيه بلدانهم إلى ساحة صراعات وتصفية حسابات إقليمية ودولية، وفق أجندة التاريخ والمصالح والجغرافيا.
تبرز الآن لعبة خلط الأوراق وتدوير الزوايا، من خلال المبارزة التي تقوم بها أمريكا خلف الأطلسي عبر أوروبا وبعض الدول الحليفة في آسيا ضمن وحدة فرضتها الضرورة قائمة الآن بين الولايات المتحدة وأوروبا، لكنها قد تنهار بمجرد أن تسكت المدافع في أوكرانيا، وبالتالي فإنّ على الاتحاد الأوربي البحث عن صيغة فعّالة للأمن والتعايش مع روسيا الأوروبية - الآسيوية.
إنّ التسويات هي محصّلة الحرب الحاصلة وفق صيغة رابح - رابح، ولكن الجغرافيا السياسية الواقعية باعتقادي سوف تؤدّي إلى خيارات خاسرة في العديد من خواصر العالم، وهنا لا بد من الإشارة الى أنّ تحديد الاتجاه أهم من الزمن، فاختراع البوصلة تم قبل اختراع الساعة الزمنية بالرغم من أهميتها على صعيد التقدم الإنساني، وضمن هذا الاتجاه سنشهد موجات الغلاء والكساد بنفس الوقت، كالتي سبقت الحرب العالمية الثانية ولكن من خلال ألحان سيمفونية أقلّ دموية وأكثر تراجيدية.
ليفانت - باسل كويفي
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!