-
مدلولات الرد الإيراني وانعكاساته
لم تكن صواريخ عشوائية ، بل كانت صواريخ موجهة بدقة بحسب ادعاء إيران ، فهي لهذا السبب أصابت هدفها ولم تخطئه ... فهدفها الذي أصابته بدقة كان أراض فارغة في قاعدة عسكرية أمريكية ، ولهذا السبب لم يصب أي جندي أمريكي في تلك القاعدة الكبيرة بأي أذى ، ولم تتحرك المضادات الأمريكية التي رصدت الصواريخ ، فالذي حصل كان رداً شكلياً منسقاً يتفادى استفزاز الولايات المتحدة حيث وضع ترامب شرطه المسبق (أن لا يصاب بالأذى أي مواطن أمريكي).
بنفس الوقت توهمت إيران أنها بهذه الطريقة تستطيع الإدعاء أنها ردت على العدوان محتفظة بماء الوجه وبعض الكرامة كما تظن ... لكن بالمقارنة مع ما صرّح به نصر الله ( لا توجد أهداف بحجم سليماني حتى ترامب ذاته الذي لا يساوي حذاء سليماني) ، فإن المعنى الحقيقي لهذا الرد كما فهمه الجميع داخل وخارج ايران هو العكس تماماً، فسليماني لا يساوي بقيمته في طهران حذاء أي بدوي في صحراء الأنبار ، والنظام الإيراني الذي تعمد التهديد والوعيد بحرق وتدمير أمريكا وإسرائيل قال بالفم الملآن أنا جبان وهزيل وبلا كرامة وكذاب ، هو وكل حلفائه معه الذين ناشدتهم زينب بنت قاسم سليماني بالانتقام لوالدها.
هذا الرد بمعناه ومدلولاته سيشجع الأطراف على متابعة سياسة إذلال وقصقصة أظافر إيران في المنطقة، فسليماني كان رأس حربة المشروع الإمبريالي الإيراني التوسعي في المنطقة العربية ، وغيابه سيضعف كثيراً ذلك التيار ويخدم التيار المعتدل ، وبالتأكيد سيقوي الشعب الإيراني الذي ينظر لسليماني كمجرم بحقه قبل الشعوب الأخرى.
من طرفها الولايات المتحدة لا تنظر لإيران كما المؤدلجون السلفيون فهي لا تراها موحدة وعدو وجودي، هي تحصر عداءها بسلوك النظام الإيراني في المنطقة وبشكل خاص تجاه المصالح الأمريكية وأهمها أمن إسرائيل ، فقضية خوض حرب تدمر إيران وتبيدها ليست في تفكيرها ولن تكون، بالنظر لوجود ميل عام لدى المواطن الأمريكي لوضع قيود على سلوك الولايات المتحدة الخارجي . وهذا سيصب في صالح سياسة قصقصة الأظافر والاصطفاء الطبيعي التي تهدف لإضعاف التيار الراديكالي بالضغوط الناعمة وبعض العمليات الجراحية الدقيقة (بالمنظار) كالتي استهدفت سليماني وتثبت جدواها، وهو ما سيشجع على تنفيذ عمليات أخرى مماثلة، وأطراف أخرى على تقليدها أيضاً، خاصة بعد نجاح أمريكا في تقييد سلوك إيران بتهديد الردع الذي أثبت فعاليته، أي أن المجال مفتوحاً الآن أمام إسرائيل لفعل ذات الشيء في لبنان وغيره ، أي أن رأس نصر الله الذي قبله سليماني يمكن اعتباره هدفاً منطقياً لإسرائيل ، وغيره أيضاً من حلفاء وصبيان إيران في سوريا وغزة .
في تقديري أن من ينتظر الحرب الواسعة ، أو ينتظر الرد الحقيقي الإيراني على مقتل سليماني عليه أن ينتظر كثيراً (على طريقة حافظ الأسد) الذي امتهن التأجيل عندما يتطلب الإسراع ، الرد الإيراني الحقيقي هو متابعة تمددها السرطاني بهدوء وخلسة وكأن شيئاً لم يكن ، فانتظار موقف رجولي من نظامها الخبيث الفاقد للكرامة قد يطول ، خاصة وأن آخر ما تتمناه إيران هو مواجهة عسكرية مفتوحة مع الأمريكان الذين بقتلهم سليماني أظهروا عينا حمراء لم تكن ايران تتوقعها بالنظر لتجربتها الطويلة معهم ،
من يعتقد أن ايران غاضبة ، أو حزينة لمقتل سليماني أيضا لا يعرف طبيعة تركيبة النظام وعلاقة رجاله به وببعضهم ، فأقرب المقربين منه لا بد سيشعرون بالارتياح لغياب الرجل الأخطبوط ، فغيابه يشكل انفراجاً على كل الذين جعل منهم صبياناً عنده من زعماء المقاومة ، بالإضافة لمعظم ضباط ايران الذين يتنافسون بطريقة غير شريفة على السلطة والثروة ، فالتنافس والصراع وعلاقات الهيمنة والإخضاع هي دوما من سمات النظام المافيوي المستبد ، وتغييب أي شخص فيه هو سعادة للباقين ، أنا هنا لا أتكلم طبعاً عن الشعب الإيراني الذي عانى منه ومن أمثاله ، ولا عن شعب العراق الجريح، أنا أقصد أنه لا يوجد وراءه سليماني في إيران ذاتها نادبين ولاطمين أو ثكلى ، هو وحش كاسر استغل ظروف المنطقة لبناء مجده الشخصي ، ولفرض سطوته داخل النظام الإيراني وخارجه ، لم يكن عنده انتماء لمشروع أو إيمان بقيم، استخدم أقذر الوسائل من دون ضمير لأجل غاياته المتمركزة حول الذات المنتفخة. والمرشد الأعلى خامنئي الذي وجد فيه الفك الذي يفترس سيتلذذ ماسوشيا بالندب عليه لكنه لن يعجز عن تكليف مفترس آخر أكثر حقارة ووحشية بذات المهام في ذات النظام.
لا ينسى أهل حلب صورة سليماني وتصرفاته بحق مدينتهم السبية التي أمعن في تدميرها ونهبها، ولا ينسى ثوار العراق ما فعله بهم من خطف وقتل وتعذيب حتى الشيعة منهم . سلوك سليماني لم يكن بدافع سياسي ... هذه كذبة وقناع ، بل بدوافع شخصية دنيئة ومنحرفة ، بررت له قصف المدن وتعذيب الناس حتى الموت ، واحراق القرى والمخيمات ، فقد كان يطلب من أهل غزة أن يدفعوا دماءهم مقابل بعض المال الذي يقدمه لهم ليوجه عن طريقهم رسائله الجبانة والمضللة... وعندما جد الجد وقتل لم يكن هناك أي رد فعل من ضمن الدعاية التي كان يتبناها.
وعليه أرى أنه من دون خطة واستراتيجية واضحة عند الأمريكان وحليفهم الإسرائيلي، لا يجب أن نرفع سقف توقعاتنا من وراء الحدث ، أخشى فعلاً أن يكون السبب الأهم الذي حرك من اتخذ قرار الاعتيال هو أيضاً شخصي للخلاص من قضايا أخرى ولذر الرماد بالعيون ، وهذا ما تراهن عليه ايران أي ضعف الإدارة الأمريكية والاسرائيلية سياسياً ، وتغيرها قريباً، وعلى خوفهما من دفع ثمن مادي بالأرواح أو المال ، ولا تراهن على ضعف أمريكا وإسرائيل القادرتين لو أرادتا كما أثبتت الواقعة ، وتعتقد أن استهداف سليماني ليس مقصوداً به لجم إيران ، بل نشر الضباب داخل المجتمع الأمريكي والإسرائيلي ... فإذا كان الفعل مقصوداً به غرض آخر ، فإن رد الفعل سيكون في مكان وغرض آخر أيضاً ، وهكذا لا يتطور الحدث لصدام يعمل الطرفين على تجنبه بعكس ما يتبجحون. هذه هي ظاهرة الحول السياسي الذي يتصف به الوضع الحالي ، حيث وجوه الفاعلين تتجه لجهة لكن أعينهم ترى جهات أخرى .
في الحقيقة لا يوجد سياسيين ولا سياسات ذات مصداقية أو ذات نظر سليم عند الجميع، فالكل حالياً مصاب بالحول وغالباً بالعشى ، وإلا لماذا صمتوا سنوات عن كل ما جرى في المنطقة؟
العامل الذي يدفع للتفاؤل قليلاً أن إسرائيل كدولة لا تستطيع أن تنام مرتاحة قبل ضرب المشروع الاستراتيجي لطهران وبشكل خاص الاتشار الميليشياوي حولها ، والقدرات النووية ، لكن إسرائيل التي استطاعت بصعوبة تحييد روسيا بوتين عن معركتها مع ايران هل ستكون قادرة على استمرار توريط إيران والولايات المتحدة في الصراع أكثر وأكثر بواسطة أذرعها الخفية ؟ وهي تدرك عنانة كل منهما ... نحن نشهد ضغوط الديموقراطيين حلفاء إيران هناك ، وايران تراهن عليهم !!! لذلك يتوجب عليها كدولة أن يكون لديها المزيد من الخطوات في المنطقة ، فانتظار وقت طويل لن يكون في صالحها ، وإلا تموت الفرصة الحالية ، وهذا يتطلب قرارات شجاعة من حكومتها ، وهو ما يصعب توقعه من أي حكومة طرف في هذا الصراع ، أي أننا لن نشاهد حرب الشجعان ، بل حرب الجبناء الذين يتدافعون للهرب من ساحات الوغى.
عاجلاً أم آجلاً لا بد أن يفهم الجميع أن الشعوب هي الأداة الأقوى ، وأن السماح لها بشق طريقها نحو الحرية هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام والاستقرار ، فيكفوا عن عرقلة ثورات تلك الشعوب التي تريد اسقاط أنظمة مستبدة فاسدة استثمروا فيها طويلاً حتى أصبحت خطراً على صانعيها .
فالمنتصر الأساسي في هذا الصراع المتوقع استمراره ، والذي نرحب به، سيكون تلك الشعوب ، ومنها شعب سوريا الجريح ومعه شعب لبنان والعراق ، وربما شعب إيران أيضاً ، لذلك على من يريد السلام والاستقرار أن يستثمر في تلك الشعوب وليس في تركيعها
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
من وحي الساحات في سوريا
- December 19, 2024
من وحي الساحات في سوريا
ليفانت-خاص
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!