-
لا كمّامة توقف انتشار هذه الأمراض!
يبدو فيروس كورونا أقلّ انتشاراً وأذيّة من بقية الأمراض الشعوريّة والعقائديّة التي تكثر بين البشر بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم وقد سبّبت مآسي كتبتُ عنها مجلّدات لا تحصى. ويبدو لي أنّ طبيعة الكمّامة اللازمة للحماية منها، هي أكثر تعقيداً من مجرد قطعة قماش، وليست متوفّرة في مكان محدّد ولا يمكن شراؤها بالمال أو الانتماء. مع هذه الأمراض الشعوريّة والعقائديّة، لن تصلح كمامات سدّ الأنف والفم، وكذلك لن تصلح سدّادات الأذن أو النظّارات القاتمة، فالعدوى قد انتشرت سلفاً منذ زمن بعيدٍ بكثرة، لدرجة لن تجد إنساناً واحداً في سوريا ودول الجوار غير مصاب بالعدوى وقد تحوّل إلى ناقل للمرض هنا وهناك بأساليبٍ مختلفة، تارة تكون حزبيّة، ثوريّة، ثقافيّة،إلخ. كمّامة
أجدني كذلك مصاباً ببعض تلك الأمراض، ولا يمكنني إنكارها مثل الكثير من الجهلة الذين إن قالوا كلاما عن الشيء الفلاني يعتقدون أنهم محميّون من نقيضه، ولا يعرفوا أنّ الشيء لا يوجد بدون نقيضه، فإن تبنيّت وجهاً ستحمل الآخر كذلك رغما عنك، لذا من الأفضل أن يعرف المرء ما هو النّقيض الذي يحمله حينما يتشدّق بشعارات وأقاويل تبدو خيّرة لبني جلدته أو له بذاته، ووصم الآخر بالوحشيّة أو اللانتماء لا يعني بأيّ شكل بأنك لست تعيش على ما ترفضه في الآخر!. كمّامة
لا أنكر بأنّني مصاب بفيروس الانتماء، إن مات شخصان أحدهم كردي والآخر غير كردي، سأتألّم للكردي أكثر وللآخر قليلاً، لا أنكر أنّ الاجتياح التركيّ لشمال شرق سوريا جعلني أسهر لعدّة ليالٍ طوال وأبكي عاجزاً، لكن في الوقت نفسه أنظر الى ما يحدث في إدلب من وجهة نظر جيوسياسيّة أي أقرأ المشهد ثقافيّاً. لا أنكر أنّني آلمت بعض البسطاء في تفكيرهم والمستندين إلى مسلّمات تاريخيّة أو غيبيّة لتبرير وجودهم وانتماءاتهم. ولا أنكر أنّني مزّقت أفكار ومشاعر بعض الناس كما أمزّق ورقة كتبت عليها نصّاً سيء البنيان. لا أنكر أنّني أكره بعض الناس دون أن أعرفهم. أكره المتذبذبين والكسالى والمتّكئين على دين أو عقيدة حزب لا يفهمونها أو لا يستطيعون الإكثار من الحجج المنطقيّة في أحاديثهم، وكثير من الأمراض الأخرى، بعضها يحميني من أمراضٍ أشدّ هولاً، فتلعب دور اللّقاح بالنسبة لي، لكنّني فعليّاً مصاب بها. كمّامة
ولو أنّني مصاب بكلّ هذه الأمراض التي يمكنني تفصيل بعضها، وبعضها الآخر لا أعرف منشأها الفعلي، لكنّني ومع ذلك لا أزال ضعيفاً أمام مواجهة الأمراض المعدية التي تزداد انتشاراً يوماً بعد يوم، وتصبح ذكيّة في تحركاتها في كلّ حين، حتّى تكاد لا تصفها بالمرض.
لا يسعني سوى اللّجوء الى الكمّامة الخالدة التي نسجها النسّاك والرّهبان في كهوف الجبال النائية. ألجأ الى كهفي النائي، ولو لم أزل أعيش في المدينة، ومكتبتي ليست إلا غرفة تتكوّم فيها مئات الكتب وعشرات الآلات الموسيقية. تلك الغرفة كهفي، وتلك الكتب والآلات الموسيقيّة كمّاماتي. كمّامة
أنغمس في القراءة والكتابة أو العزف على التمبور في كلّ حين، أو أستغرقُ النّظر في ابني "همايون" وما ينتظره من مستقبل قد لا يحمل من اسمه شيء (العدل القدسيّ أو المطلق)، وأعتقدُ أنّني ووالدته جلبناه مباشرة الى المشفى الكبير – مشفى الحياة، وأرجو أن يكون طبيباً للحياة حينها، وليس طبيباً بشريّاً أو مريضا في المستشفى مثلي. لذا أجدني أحمله على فخذي وأعزف له ارتجالاً وليس أغانٍ أعرفها، وأفسح له المجال كي يمسك بالوتر، ويشدّه بقوّة، ويتركه ليصدر صوتاً صاخباً يطغى على كلّ صوت آخر في المكان.
تلك هي الكمّامات التي أستخدمها لأحمي نفسي من تلك الأمراض المعدية التي لم تزل تنقسم إلى سلالات مختلفة، حتى لا أكاد أميّز بين بعضها البعض، وما طوّرته من مصل خلال أربعين سنة خلت لم يعد نافعاً كثيراً ولو أنّه لا يزال مفيداً. وصنع مصل جديد يستدعي منّي أشهراً وسنوات من العمل قراءةً وكتابةً ولحناً، وحينما أخرج مع مصلي الجديد، أجد من حولي قد أصيبوا بعدوى جديدة، وكذلك يجدونني مصاباً بعدوى جديدة.
بعد كل هذه السنوات، أجد أنّ الكمّامة الفعّالة في الحياة، هي كمّامة العزلة، عزلة الرّاهب أو النّاسك، لكنّني أقف عاجزاً ومرتبكاً مجدّداً، فيفترض أنّني ابن الحياة، وقدّمت إليها لغاية ما، هذا ما يقال في الكتب على الأقلّ، وكذلك في علم البيئة، ليس هناك شيء بدون دور أو غاية مكمّلة لغاية الطبيعة الأمّ. إنّي أدراك حقيقة، كونك تحمل جزءاً من حقيقة الوجود معك مثل وجودها في كلّ شيء آخر، هو مرض معدي بدوره نشره بوذا منذ ما يناهز ٢٥٠٠ سنة، وتدفعني هذه الحقيقة لأنظر إلى ما يحدث وكأنّه طبيعي ولابدّ، لأنّه يتكرّر عبر التاريخ بصورة مستمرة، وبالتالي هو ليس مرض معدي بالمعنى الحرفيّ أو المجازيّ، بل هي واحدة من تجلّيات الطبيعة، ويبدو لي بأنّ كثرة التفكير والقراءة هو المرض الذي يخلق الشكّ في مسار التاريخ وحقيقة الإنسان، وهذا قد يبرّر وضع الآخرين للكمّامات حينما أتحدّث.
من عليه أن يضع الكمّامة ليحمي نفسه من الآخر؟، من هو المريض فعلا ؟. أسئلة بالغة البساطة في تركيبها بالغة الصعوبة في غاياتها.
أتذكّر موقفاً كنت أعيشه في الطفولة والمراهقة، ودفعني لأكره من كانوا يضعون الكمّامات على أنوفهم وأفواههم حين زيارة مريض في المنزل أو في المستشفى. كنت أعتقد أنّهم يضعون الكمّامات كي لا تصيبهم العدوى من المريض وبذلك يوصمونه بشكل ما، لكن في الحقيقة كانوا يحمون المريض كي لا يصاب بجراثيم يحملونها في أفواههم فتزداد حالته سوءاً. من جهة أخرى كرهت من يضعون الكمامات في الشارع، إذ كنت أحسّ أنهم يعتبروننا/ يعتبرونني مريضا ويحمون أنفسهم منّي، لما لا ؟، فأنا الذي قد أنشر غباراً بجانب مصابٍ بالربو فأصيبه بنوبةٍ، أو كنزتي الصوفيّة الغالية قد تقوم بذلك الدور، ناهيك عن الجراثيم المختلفة والمتنوعة التي نحملها على أجسادنا وفي عقولنا وقلوبنا.
من عليه أن يحمي نفسه من الآخر؟. كمّامة
ليفانت - ريدي مشو
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!